كيف تحوّلنا من النظام الأمومي إلى الأبوي؟
في فضاء العلاقات بين المرأة والرجل تخضع هذه العلاقات لميزان: من يمتلك من؟ وماذا يمتلك؟
في السيرورة التاريخية للنظام الأبوي الذي يعدّ النظام الرأسمالي امتداداً له، كانت النساء ضمن مجموعات، يخضعن لملكية رجل واحد، هو "الأب" الذي يمثل رجل العشيرة في المرحلة البدائية من تكوين المجتمعات البشرية.
في تلك المرحلة كانت طبيعة العلاقات بين المرأة والرجل تتصف بأنها بدائية همجية تخضع لنظام ملكية يختزل جسد المرأة بكونها أداةً للحفاظ على النسل، الذي يؤدي غرض البشر في البقاء والحماية والغذاء، ولم تكن قوانين المجتمعات الحديثة مشابهة لتلك البدائية، فالإنسان الحديث هو الذي نظّم علاقات القرابة، بناءً على شرائع الحلال والحرام، أي هو الإنسان الذي خضع لقوانين ثيوقراطية مبنية على معتقدات ميتافيزيقية في مناطق الشرق الأوسط والشرق الأقصى من العالم.
لكن الطور البدائي من المجتمعات البدائية مرَّ بمرحلتين بارزتين رسمتا ملامح الصراع الديالكتيكي بين المرأة والرجل، وهما:
مرحلة حق الأمومة، ومرحلة حق الأبوة؛ ففي المرحلة الأولى كان النسب مبنياً على صلة القرابة بالأم، أما في مرحلة حق الأبوة أو النظام الأبوي Patriarchy، فقد تشكّلت العلاقات الجنسية كردّة فعل على النظام الأمومي Matriarchy، وتوزعت فيه حصص الملكية الاقتصادية على نحو يجعل من الرجل صاحب الحق في نسب الأبناء إليه، وبالتالي شملت الملكية الاقتصادية ملكية الرجل للمرأة وتشييئها وتقرير مصيرها في مساحات وأصعدة كثيرة.
لعبت الغيرة دوراً في التمهيد لتشكيل علاقات الملكية بين الرجال لنساء وفتيات القبيلة، وصاحبت ذلك الرغبة في السلطة من الرجل على المرأة
ويمكن وصف التحوّل إلى النظام الأبوي بأنه ظاهرة إعادة تشكيل علاقات القوة والملكية بين المرأة والرجل، وتسوية حق النسب بينهما، فالمرأة بعد أن كانت تملك أبناءها وتختار الأب المناسب الذي تنسب إليه ابنها بعد إقامة علاقات جنسية متعدّدة، أصبحت ملكاً للرجل، إذ كانت العلاقات الجنسية تتم بهذه العشوائية والبساطة لأنّ الغرض منها هو التكاثر من أجل تشكيل تجمعات بشرية تعمل في الصيد والزراعة، وتسعى لتحقيق الأمان.
ومرحلة حق الأبوة تماهت مع نشأة الديانات التوحيدية في الشرق العربي، حيث ظهر في هذه المرحلة رسل وأنبياء وليس نبيات، وما زال العالم حتى اليوم يعيش على مخلّفات هذا النظام، وقد تفرّعت منه أنظمة أبوية حديثة، منها النظام الرأسمالي.
وفي حين أنّ النظام الاقتصادي في العالم العربي يتبع النظم الاستعمارية، إلا أنّ منظومة العادات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع العربي ما زالت مستمدة من النظام الأبوي الديني. وصحيح أنّ أوروبا الحديثة، وما بعد الحداثية، عانت نساؤها من النظام الأبوي المسيحي واليهودي بسبب التابوهات التي أعادت إنتاج نفسها في النظام الأبوي الإسلامي على نحو متزامن بين الغرب والشرق، إلا أنها سعت لتحقيق أنظمة شاملة مبنية على شراكة المرأة والرجل تحقيقاً للعلمانية، فهذه الشراكة أصبحت ضرورة ملحة بعد الثورة الصناعية، لحاجة هذه المرحلة للأيدي العاملة وخروج النساء من بيوتهن إلى المصانع، لكن ما بين الثنايا التاريخية هنا، نقرأ عن ظواهر عنصرية واستغلالية تميّز المرأة عن الرجل في الأداء والترقيات والحوافز والرواتب وغيرها من قضايا مرتبطة باغتراب المرأة التي حملت جزءاً كبيراً من التطورات الصناعية على أكتافها.
أول عار نُسب للمرأة هو العار في أن تكون المرأة مشاعاً في العلاقات الجنسية
وعودةً إلى النظام الإسلامي، الذي دحض كلّ أشكال الزواج والسفاح المنتشرين في المجتمعات البشرية البدائية، وأبقى على نمط واحد من أنماط الزواج وهو زواج الصداق، أي الزواج بمهر وشهود، حيث يشترط على المرأة الحرّة أن تكون مملوكة لرجل واحد، ذلك أنّ العرب كانوا يفضلون هذا النمط من الزواج لأنه يضمن لهم حق نسب أبنائهم للرجال، أما أنواع الزواج الأخرى التي ظلّت لعصر ما قبل الإسلام، والتي لا يعتبرها الإسلام زواجاً، بل ضرباً من الزنا أو السفاح، مثل زواج الاستبضاع، وزواج الرهط، الأقدم بين أشكال الزواج، وهو الذي كان امتداداً للنظام الأمومي. هنا أشير إلى تطوّر هام في مرحلة النظام الأبوي، حيث أشار إليه فريدرك آنجلز في كتاب "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة"، بأنّ شعور الغيرة بين الرجال في القبائل وتعدّد ملكيتهم للنساء، هو أبرز ملامح هذه المرحلة، التي سبقها علاقات المشاع الجنسية لغرض مكاثرة القبائل، حين كان يحتمي الإنسان بالقبيلة ويسير في الأرض ضمن مجموعات ويلبي غرائزه البقائية ضمن هذه المجموعات، وذلك في مرحلة كانت الأشياء فيها مشاعاً. فالغيرة هي تطوّر نفسي اجتماعي هام في تاريخ الإنسان يطوي صفحة المشاع في العلاقات الجنسية. لقد لعبت الغيرة دورا في التمهيد لتشكيل علاقات الملكية بين الرجال لنساء وفتيات القبيلة، وصاحبت ذلك الرغبة في السلطة من الرجل على المرأة، ومن هنا تولدت فكرة العار، فأول عار نُسب للمرأة هو العار في أن تكون المرأة مشاعاً في العلاقات الجنسية.
وفي بدايات النظام الأبوي كانت المرأة تُمتَلك، ولم يكن يسمّى هذا الامتلاك زواجاً أو اقتراناً، فكان الهدف من امتلاك المرأة الحفاظ على النسب وضبطه، فصاحبت ذلك إعادة امتلاك الأراضي بين القبائل، فأصبح هنالك النسب والأرض من المقوّمات البدائية الأساسية للنظام الأبوي بين القبائل عبر الحروب أو الاتفاق، وعلى هذا النحو جرت ملكية النساء بطريقة جديدة من خلال عمليات مبادلة المرأة بالأشياء، أو السبي في الحروب، علما أنّ السبي ظاهرة قديمة جداً، كانت موجودة في المجتمع الأمومي حيث كان يسُبى الرجال والنساء على حد سواء.