كيف أصبح الولد الأهبل نبيه مصوراً فوتوغرافياً
كانت عملية تلقي العلم في مدارس الأيام الغابرة شبيهة بعملية بيع الخضار والفواكه من الصنف الثالث في سوق الهال، ولها تسميات عديدة في مدننا المختلفة، إذ يسمونها البيع بـ(المطابشة)، أو (الكورجة) أو (الكوم)، أو (الدوكمه) أو (شيلة بيلة)؛ فبعض الآباء كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس عامدين متعمدين، لأنهم يتنبأون أن العلم سيكون له في القادم من الأيام شأن وأهمية، وهؤلاء قلة بالطبع، وبعضهم الآخر كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس من باب التقليد، أو الغيرة والحسد، فيقول الواحد منهم لنفسه:
- فلان قَيَّد ابنه في المدرسة، وأنا بودي أقيد إبني في المدرسة، وما من أحد أحسن من أحد!
والبعض الثالث كان يرسل إلى المدارس عشرةَ الأولاد الذين بذرهم خلال السنوات الأولى من زواجه الميمون، معتقداً بصحة المثل القائل: (اضرب طينتك بالحائط فإذا ما لم تلتصق به فربما تركت أثراً عليه)، بمعنى أن الولد (هو ووجدانُه)، فإن تعلم كان بها، وإن لم يتعلم فإلى ستين جهنم وبئس المصير!
وأما الأغرب، والأنكى من هذا كله، فإن والدة بطل سيرتنا "نبيه"، الذي لم ير النباهة على الخريطة، هي التي اقترحت على والده إرساله إلى المدرسة، مع العلم بأنها لم تكن مؤمنة بالعلم وأهمية العلم، حاشا وكلا، ولكن ما حصل معها في يوم من أيام الخريف، هو الذي دفعها إلى هذا التصرف.
كان زوجها الذي يعمل بصفة قباني في سوق الهال عائداً من عمله، فوجد البيت قد قُلب فيه الفوقاني تحتانياً، وكأن دورية من الشرطة الجنائية (كبسته) على حين غرة وفتشته تفتيشاً دقيقاً، ووجد زوجته تلوح بأصابع يديها الإثنتين، وتولول، وتقول له:
- لله وللرسول! ما بقيت لي قدرة على تحمل نبيه، ألا ترى كيف قلب الفوقاني والتحتاني في البيت؟ يا رجل، أنت تعرفني، وتعرف كم أنا صبورة، وقبل أن يأتينا هذا المرفوس نبيه ربيت خمسة صبيان وأربع بنات، وكلهم كبروا وتزوجوا وفتحوا بيوتاً متل الصلاة على النبي، إلا هذا الشقي. من دون يمين طَفَّرني وشَوَّشَ عقلي.
وسحبته من يده إلى حيث توجد صوفا (أريكة) كبيرة موضوعة بالعرض في مدخل المطبخ، وقالت له:
- أنت رجل، طولك وعرضك، هل تستطيع أن تشحط هذه الديوانة من غرفة الجلوس إلى هنا؟
قال: لا والله.
قالت: ابنك السيد نبيه شحطها. هل تعرف ما هو أحسن حل لهذا الولد؟
قال: ما هو؟
قالت: سجله في المدرسة، على الأقل أرتاح منه أربع خمس ساعات في اليوم!
وهذا ما كان بالنسبة لنبيه، سحبه أبوه من أذنه كما يُسحب الجدي المُساق إلى المسلخ، ودخل به إلى إدارة المدرسة وقال للمدير:
- قَيِّدوا لنا هذا الولد في دفاتركم!
فقيّده المدير في الدفتر، وبذلك نزل العبء الثقيل عن كاهل أمه وأبيه، ليقع على كاهل إدارة المدرسة ومعلميها وطلابها وأذنتها!
وأصبح نبيه، اعتباراً من تلك اللحظة التاريخية، تلميذاً ظريفاً يضع كتبه ودفاتره وأقلامه في حقيبة مستطيلة مصنوعة من الخشب، ومقواة بصفيحة صفراء من التنك،.. وذات يوم خطرت له فكرة لا تخطر ببال أي شخص يمتلك ذرة من النباهة... ونفذها في الحال: أدار حقيبته التنكية نحو سلة الوسخ، وأفرغ محتوياتها من الكتب والدفاتر والأقلام في السلة، ثم وضعها على الأرض، وأتى بحجر كبير، وشرع يدقها - كما يفعل الحداد بقطعة الحديد المحمرة الخارجة تواً من الكير - ويطعجها، ويشوهها، حتى أصبحت ذات حدود جارحة من كافة الجهات، والتفت إلى زملائه وقال لهم وهو يلثغ بالأحرف الصافرة كعادته:
- هاي كاميرا تصوير، بودي أصوركم بها.
وطلب من أحد التلاميذ أن يقف ويدير وجهه إلى الكاميرا ويبتسم، وحينما نفذ التلميذ ما أمر به وهو مرعوب، ضربه نبيه بالحقيبة/ الكاميرا ضربة واحدة أنشبت الدم من جبينه! فمضى وهو يصرخ بالمقلوب، وقال للزميل الآخر:
- تعال أنت الآخر، دعني آخذ لك صورة حلوة مثل رفيقك..
وما هي إلا لحظات حتى استنفرت المدرسة بطواقمها الإداري والتعليمي والخدمي لإسعاف التلاميذ الذين التقط لهم الطفل المعجزة نبيه صوراً فوتوغرافية بكاميرته العجيبة! وخرج المدير من الإدارة بعد أن علم بما يجري حاملاً بيده عصا غليظة، واتجه نحو "نبيه" الذي بادره رافعاً الحقيبة المدببة في الهواء، قائلاً:
- لحظة أستاذ، خلني آخذ لك صورة تذكارية!
واندفع نحوه، يريد أن يصل القول بالفعل ويلتقط له صورة تذكارية، فما كان من المدير إلا أن (شمع الخيط) هارباً إلى غرفة الإدارة، ودخلها بسرعة البرق، وأغلق الباب وراءه بالدرباس، واتصل من توه بمدير الناحية الذي بدوره أرسل شرطيين إلى المدرسة، ألقيا القبض على "نبيه" دون أن يتمكن من أخذ صورة تذكارية لهما! واحتجزاه في إحدى الغرف، وأرسل المدير أحد الأذنة إلى ولي أمر نبيه ليطلب منه أن يأتي إلى المدرسة لاستلام ابنه.. الموهوب في مجال التصوير الضوئي!
-------------------------
سيرة مسلسلة ــ يتبع