كيف أصبحتُ شريفاً؟

07 سبتمبر 2024
+ الخط -

أخبرني عمّي ذات مساء مُمطرٍ ومُرعد أنّنا شرفاء، وأنّ جدّنا هو أبو بكر الجمل. شعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ وأنا أسمع وأرى بريق عيني عمّي وهو يحكي بفخرٍ تلك الحكاية، وقد أخذ صوته ذلك العمق التراجيدي الذي تأخذه أصوات الناس وهم يحكون حلمًا رأوه، أو وهم يرتلون كتابًا مقدّسًا. عرفت أنّ خلف تلك الحكاية سرًّا مُشوّقًا. وبعد برقٍ اقتحم نوره الغرفة وأضاء بمسحةٍ ميتافيزيقية وجه عمّي، سألته بتحمّسٍ، ومباشرة: ولماذا سُمّي جدنا بالجمل؟ أجابني بعد أن تنهّد بعمقٍ وعيناه لا ترمشان، أنّ جدّنا هذا كان شريفًا، وليًا، صالحًا، معروفًا عند البعيد قبل القريب، وقد حدث ذات يوم أن جاء فيضان وأخذ عروسًا فتحوّل جدّنا إلى جملٍ، وأنقذ العروس وكانت تلك كرامتُه، فعُرِف بأبي بكر الجمل.

إنّها قِصّة جميلة. قلت في نفسي. لم أكن شريفًا قبل سماعها وها أنا بعد سماعها مباشرة أصبحتُ شريفًا أيضًا. لم يعدْ بإمكان من يسمّون أنفسهم بالشرفاء ويضعون أمام أسمائهم مفردات مثل مولاي أو سيّدي.. أن يفوقوني بشيء. فإن انتمى أحدٌ منهم إلى فلان أو علّان، فأنا أنتمي إلى جملٍ، وما أدراك ما الجمل؟

اضطجعتُ على سريري بعد ذلك، وحيدًا في غرفتي، أُنصت للمطر والرعد وأدخّن وأتأمل، وقد سرحَ خيالي بعيدا. تخيّلت ملامح جدّي الصُوفي الورع ولحيته الشيباء المهيبة وهندامه المُتواضع. تخيّلت مكتبته وقنديل زيته الذي يُضيء به صفحات كتبه ومجلّداته ومخطوطاته العتيقة، كما كنت أنا أيضًا أضيء بشمعةٍ صفحات الرواياتِ والدواوين والكتب الممنوعة، المُنقّطة أغلفتها ببيضِ الصراصير، أو التي بلا أغلفة من الأصل، وبلا فهرس أيضًا. تخيّلت الفيضان والعروس الشابة الجميلة الخجول المُزيّنة بمكياج قرونٍ سحيقة. تخيّلتها تسقط عن فرس العرس وتقع داخل النهر كدلو يسقط داخل بئرٍ ويجرفها الفيضان، ثم تخيّلت الجمل الذي هو جدّي، وهو يركض في اتجاهها ثم يغطسُ ويسبح بقوائمه القويّة حتى يبلغها فتمتطيه ويعود بها ثم يعود إلى هيأته الأولى، وليًا، صالحًا، بملامحه المشرقة التي يضيؤها البرق، ولحيته الناصعة، وهندامه الوقور، فتزغردُ النساءُ فرحًا، ويطلق الرجال البارود في اتجاه السماء الغائمة المُضطربة المُمطرة احتفالًا.. 

قِصّة واحدة ذات حبكة جيّدة، تستطيع أن تنقلك بسرعةِ البرق من مراتب العامة والزنادقة إلى مراتب الشرفاء

قِصّة واحدة ذات حبكة جيّدة كهذه تستطيع أن تنقلك بسرعةِ البرق من مراتب العامة والزنادقة إلى مراتب الشرفاء. هذه هي عظمة الأدب حين يحوّل رجلًا إلى جملٍ مثلًا، أو إلى طائرٍ أو إلى سمكة..

أعدت تقليب هذه القِصّة في رأسي. إنّها في حقيقة الأمر قِصّة غريبة ومُحيّرة. يمكن القول أيضا إنّها قصّة سوريالية رغم أنّ التيار السوريالي لم يكن قد ظهر بعد إلى الوجود. إنّها أشبه بكابوسٍ أكثر ممّا هي أشبه بقِصّةٍ حقيقيّةٍ. فالأعراسُ لا تكون في الشتاء بل في الصيف، وحتى إن كان هناك استثناء فلن يكون في الفيضان. يصعب عليّ تخيّل عرس في عاصفةٍ تُسبّب فيضانًا. ولماذا تصل العروس إلى النهر لتسقطَ فيه؟ كان منطقيًا أكثر أن يسقطَ في النهر أحد الضيوف وليس العروس التي هي مركز العرس ومحوره. كان منطقيًا أكثر أن يسقط العريس على الأقل عوض العروس. وحتى إن سلّمت بكلِّ ذلك واعتبرته منطقيًا، كيف أستطيع أن أسلّم بتحوّل جدّي إلى جملٍ وليس إلى فرسِ نهرٍ مثلا أو إلى تمساحٍ أو إلى دلفين؟ كان حريًا به أن يتحوّل إلى دلفين لأنّ الدلافين معروفة بألفتها وذكائها وبإنقاذها للبشر. كان المنطق سيكون حليف هذه القِصّة، وكنت سأكون حفيد أبي بكر الدلفين. 

ورغم أنّ الجمل كائنٌ صحراوي، إلّا أنّه، وبقدرةِ فنِّ الحكي وسحره الذي من هلام الأحلام أصبح هنا غطّاسًا ومنقذ غرقى في الفيضان. إنّها قدرة مبهرة على نقل كائنٍ من بيئته الرملية إلى بيئةٍ مائيّةٍ مائعة. 

لكن، أليست الكثبان بتموّجاتها وتحوّلها من حالٍ إلى حال في الرياح الجافة والعواصف العطشى استعارة عن البحر بأمواجه وهيجانه؟ وأليست تسميّة الجمل بسفينة الصحراء، هي الرابط هنا بين الغريق (العروس) والمُنقذ (السفينة)؟ سفينة نوح المنقذة، ليس من الهلاك المادي فقط، بل من الهلاك الروحي أيضا؟ أكثر من ذلك، هل الاستعارات الماديّة هي نفسها استعارات الروح؟ ما الفرق إذن بين جمل يسبح وبين حصان له أجنحة يطير في السماوات؟

في كلِّ الأحوال لقد أصبحت لي قِصّة، وبسببها أصبحتُ شريفًا، وهذا هو الأهم. قِصّة يمكن تقديمها كدليلٍ أمام السلطات، وأمام الفقهاء، وحتى أمام العلماء والمنجمين والسحرة وقرّاء الطالع والأبراج، فهؤلاء جميعا في نهاية المطاف لا يملكون دلائل على مزاعمهم سوى تلك التي تشبه هذه القِصّة الغريبة، قِصّة الجمل السبّاح. القصّة التي حكاها لي عمّي دون أن يرفّ جفنه برفةِ شكٍ واحدة. كما لو أنّه يحكي لي قِصّة أهل الكهف.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.