كغريق ينقذه آخر نفس من الهواء
في فترة متأزمة جداً من حياتي جرّبت كلّ الحلول الممكنة، ولم تأت كلها بأي نتيجة. شعرت بأني مقذوف في هذا العالم كريشة في عاصفة، دون بوصلة ودون خريطة ودون حتى وجهة. عكفت على القراءة والبحث أكثر في الأدب، وفي الفلسفة، وفي الأديان، والمعتقدات، باحثاً داخلها عن أجوبة شافية، وعن حلول لما يكبّلني من أزمات فكرية وروحية واجتماعية ساحقة لروحي ولجسدي، ولكلّ وجودي، وقد أسدلت لحية فوضوية شعثاء شهوراً، لكني اكتشفت أنّي كلما قرأت أكثر وعرفت أكثر وفهمت أكثر... تهت أكثر وزادت العاصفة التي تلهو بي ضخامة واتساعاً ورعباً.
وذات يوم عثرت على كلام لبوذا، كغريق ينقذه آخر نفس من الهواء، آخر هبّة ريح، آخر قشة. كلام صغير وقليل لكنه كاف لإنقاذ حياة. عكفت بعد ذلك على تتبع أخبار بوذا والبحث في حياته وفي ما نسب إليه من كلام وتعاليم وأساطير، هذا الأمير الذي ترك الإمارة بحثاً عن ذاته وعن المعرفة. ما يطمح إليه الإنسان ويحلم به أقصى حلم، تركه بوذا اليقظ وذهب حافياً في الطرقات وبين الأشجار.
إنّ كل آلامنا وخيباتنا وتعاستنا، سببها هو رغباتنا يقول بوذا، فحين ترغب في شيء بقوة شديدة وتسعى وراءه بعماء كامل، تكون قد صنعت آلامك وخيباتك وتعاستك بيديك. إنّ العالم محض أوهام، وما رغباتنا إلا تجسيد لتعلّقنا الزائف بتلك الأوهام، تعلّق يائس بالألم والخيبة والتعاسة. بحث محموم ومثير للشفقة عن أجوبة لأسئلة ليس لها أجوبة: "السائل يخطئ والمجيب يخطئ. لا تنتظروا شيئاً من آلهةٍ عديمة الرحمة، تخضع هي أيضاً لشريعة الكارما. تولَد وتشيخ وتموت لتولد ثانية، ولا تستطيع أن تتفادى آلامها. اعتمدوا على ذواتكم، ولا تنسَوا أنّ الإنسان يصنع سجنه بنفسه، وأنّ كلّ واحد يستطيع أن ينال تفوق قوّة الأندرا". يقول بوذا في وصيته الأخيرة مخاطباً تلامذته.
وعندها شعرت أنّ كلام البوذا يمسّني عميقاً، وأنّ روحي الحائرة سافرت في الزمن وفي المكان، وجلست جلسة اللوتس، متشربة التعاليم الصارمة واللطيفة التي شعت بها روح المعلم. ثم عادت إلى مكانها وزمنها سالمة وقد تخلصت من كل ما يعيقها وتطهرت من كلّ أوحالها وقد لمستها الاستنارة. لقد كانت مكبّلة برغبات كثيرة وأحلام وتعلّق كامل بالأشياء والأشخاص، وها قد تخفّفت من كل ذلك.
لم أعد متعلقاً بأيّ شيء أو مرتبطاً بأي شيء، فكان ذلك أكبر طموح قد تحقّقه روح، وهو لا يعني انعدام الطموح، بل هو الطموح الأعمق ذاته، والأحق بأن أهبه حياتي.
تبددت كلّ الأزمات في لحظة واحدة قصيرة ككتلة هائلة من الغيم الداكن اخترقها شعاع المعرفة الداخلية الخالصة. وبعد ذلك لم أعد مهتماً حتى ببوذا نفسه، فبوذا نفسه كما يقول عنه أحد رهبان البوذية مجيباً أحد تلامذته ليس سوى الشجرة في الحوش: "تلك الشجرة في الحوش، هي البوذا".
إنّ كل آلامنا وخيباتنا وتعاستنا، سببها هو رغباتنا يقول بوذا، فحين ترغب في شيء بقوة شديدة وتسعى وراءه بعماء كامل، تكون قد صنعت آلامك وخيباتك وتعاستك بيديك
كل واحد منا أيضاً هو بوذا نفسه، تلميذ نفسه، ومريد نفسه، حين تصير نفسه هي نفسها أغوار الإنسان أينما كان، وأينما كانت، وليس نفسه هو فقط، وهذا متاح لكلّ من أراده دون أي استثناء. يكفي أن تقرّر النزول إلى أغوارك حتى تنزل، وحتى ترى مياه الإنسانية كلها ساكنة داخلك، معتمة وباردة وكثيرة الظلال والتجاويف والمغاور، لكنها غير مخيفة.
لم أصبح من تلامذة بوذا، بل من تلامذة هذا الكون كله، محاولا الإنصات بعمق إلى لغته الصامتة الحرة، التي ليست من كلمات، بل من أصوات فقط، وصور وروائح وإشارات ورموز ومجازات واستعارات تتحرك بها مياه أعماقي في دوائر شديدة التناسق. البوذا الذي لم يكن شخصاً أبداً، ولم يكن نبياً أو رسولاً، أو أمراً أو نهياً، كان انعكاساً للمعرفة على صفحة مياهه الداخلية الساكنة فقط.
"وشعر البوذا بألمٍ في بطنه، فاستلقى وأشار بيده ليصرف الجمع وقال: انظروا إلى جسد بوذا. كلّ ما هو مركّب مصيره الخراب.. تابعوا مسيرتكم باعتدال، وانطفأ البوذا".
واليوم أيضاً، وقد أخذت الحيرة تثقل كاهلي، والأزمات تتجمع كغيوم، والخارج يزعج الداخل ويرهقه رغم كل صخب الاحتفالات والفرح السطحي، اليوم أيضاً أمد حبل تأملاتي إلى أعماقي الظليلة، إلى السكون المطلق للروح وللفكر وللوعي، متخففاً من كل رغباتي، منعكساً على صفحة وجودي الوهمي الزائل، ممسكاً بالمعرفة الداخلية فقط، وباليقظة، وبالاستنارة، متذكراً كلام البوذا:
"ويحك. أتشعر بالألم على الرغم من كلّ ما علّمتُكَ إيّاه؟ أيصعب كثيراً على الإنسان أن يتخلّى عن جميع آلامه؟ لا تبالغ يا عناندا. فالحياة نزاع طويل، وما هي إلا ألم. حين يبكي المولود عند ولادته فهو محق. إنّها الحقيقة الأولى. أمّا الثانية فهي أنّ الرغبة تسبّب الألم. يعشق الإنسان ظلالاً ويتيه بالأحلام. ويغرس في مركز كيانه "أنا" زائفة. ويشيد عالماً خياليّاً حولها. لكنّه يهلك عندما يفارق الحياة، لأنّه ارتوى من شرابٍ سامّ، فيولد ثانيةً مع رغبةٍ شديدة للشرب مرّة أخرى".
هذا المساء أيضاً، قذفت حجراً في اتجاه مياه ساكنة في الغابة، كانت أصداؤها تعاليم بوذا الذي بداخلي: ويحك. أتشعر بالألم على الرغم من كلّ ما علّمتُكَ إيّاه؟