كرة القدم... من أقدام الفقراء إلى أحضان رأس المال

17 نوفمبر 2022
+ الخط -

كانت، ولا زالت، كرة القدم لعبة ابتدعها الفقراء، واختاروا لها رسالة الأخوة والصداقة وروح الفريق، فتحوّلت في غفلة منهم إلى محدّد رئيسي لمستقبل أممهم، يتداخل فيه السياسي مع الثقافي والاقتصادي، ويحمل في طياته الكثير من الرسائل الاجتماعية.

على بعد أيام قليلة من الحدث الأهم في العالم، وهو كأس العالم 2022، والذي يقام في دولة قطر، يتحلّق ملايين البشر في الساحات والميادين والمقاهي والمطاعم والحانات حول شاشات تتفاوت أحجامها، لكن لا تختلف الصور المنقولة عبرها، لتنقل ملاحم في ظاهرها مجرّد لعبة، لكنها في الحقيقة تخفي صراعات وتجاذبات جمّة أكبر من الرياضة نفسها، وتعكس في ما تعكس، حاجة الإنسانية لما يجمعها ويعمّدها بالسلام والتآخي.

خلال هذه الأيام، وبعد عودة الرئيس لولا دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل، عاد إلى أذهان الجماهير صورة رفيقه اللاعب البرازيلي سقراط دي أوليفيرا، ذلك اللاعب العبقري لمنتخب البرازيل، الطبيب الذي كان يحمل رسالة شعبه، وجعل من سحرِ اللعبة وسيلة للوصول إلى قلوب الملايين والتعبير عمّا في صدورهم.

ملاحم في ظاهرها مجرّد لعبة، لكنها في الحقيقة تخفي صراعات وتجاذبات جمّة أكبر من الرياضة نفسها

سقراط كان إلى حدّ ما يعكس صورة الشعب البرازيلي في ملامحه وفي طموحه، فتحوّل في غفلة من الإمبريالية العالمية، التي أفسدت كلّ شيء، رمزاً من رموز الحرية والانعتاق، وتعبيراً عن أمل شعبه في العدالة الاجتماعية وسحق التفاوت الطبقي والثورة على حكم العسكر بواسطة الانتخابات الديمقراطية التي استجاب لها الشعب، بعد دعوته لها وتهديده بمغادرة البلد، فكانت كرة القدم وشعبية سقراط وسيلة لتمهيد الطريق لحكم المدنيين والديمقراطية في البرازيل.

في الجانب الآخر من العالم، وتحديداً في أفريقيا، استطاع اللاعب جورج وياه أن يعتلي سدّة الحكم في ليبيريا عبر بوابة كرة القدم، واختار لنفسه نفس رقم قميصه الرياضي خلال حملته الانتخابية، ليحوّل نجاحه الكروي في قيادة منتخب بلاده إلى نجاح سياسي مهم، حيث استطاع أن يغيّر، ولو القليل، من حياة مواطنيه بعد سنوات من الحرب الأهلية ولعنة الأوبئة والأمراض التي ما زالت تنخر بلده، الإيبولا مثلا.

اللاعب زين الدين زيدان أيضاً، كان لسنوات طويلة شخصية مؤثرة، وكان لعدّة سنوات سفيراً للعرب والمغاربة في اللعبة العالمية عنوةً عن انتمائه "الرسمي" لبلد بديل عن بلده الأصلي الجزائر، فلم يستطع رغم كلّ ذلك إلا أن يكون عربياً في نظر العرب من المغاربة والمشارقة رغم كلّ المحاولات لطمس ذلك. ولم يخف قميصه الأزرق لمنتخب الديكة الفرنسي ملامحه العربية التي لا تُمحى بالتجنيس أو الإقامة، ولا حتى بتغيير الاسم بنطق إفرنجي بحت. وتحوّلت قصة نجاحه إلى قصة ملهمة للعرب والأفارقة والأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين، وساهم حضوره في الساحة في تحطيم سرديات اليمين المتطرّف في فرنسا حول المهاجرين.

كل هؤلاء الرموز أدّوا رسالة كرة القدم كما يجب، وعبّروا عن انتمائهم بطريقة التنوّع العرقي والإثني، وأحسّت الإنسانية بتنوّعها الطبيعي في كلّ الدورات التي أقيمت، بالرغم من أنها لا تكاد تخلو من التجاذبات والتوترات على خلفية المواقف السياسية.

أصبح ضرورياً اليوم أن تعود كرة القدم إلى أصحابها الحقيقيين وأن تتحقق العدالة في ممارسة اللعبة والمشاهدة

في الجانب الآخر، يتوّجب أن تعود كرة القدم إلى روّادها الحقيقيين من فقراء ومهمشين، أولئك الذين صاروا غير قادرين على ممارسة اللعبة بسبب تحوّلها إلى ممارسة بورجوازية تستوجب إمكانيات مادية ضخمة، خاصة بعد أن انتظمت العديد من الفرق في شكل "شركات"، وأصبح رأس المال يحجب الموهبة والشغف، وصار الفريق مجرّد "سوق"، وصار الحق في مشاهدة المباريات أيضاً حقاً نخبوياً يستوجب دفع المال لمجرّد الولوج إليه.

هذه التحولات العميقة التي أسقطها الاقتصاد الرأسمالي على لعبة الفقراء، جعلها تحيد عن رسائلها الأصلية، وأصبحت تكريساً مقيتاً لسلطة رأس المال على أحلام الشعوب، فصار من غير الممكن أن تنتصر الإرادة والموهبة وروح الفريق على معسكرات التدريب العلمية والانضباط التكتيكي لكبرى مدارس التدريب، التي تستثمر الحكومات ورجال الأعمال أموالها فيها بكلّ ما للرأسمالية من وحشية على كلّ ما تختاره الشعوب.

في المقابل، أصبح ضرورياً اليوم أن تعود كرة القدم إلى أصحابها الحقيقيين وأن تتحقق العدالة في ممارسة اللعبة والمشاهدة، وأن تحسّ الأمم والشعوب بالمساواة أمام قانون اللعبة، وألا تتحول إلى لعبة موازية تلعب داخل مكاتب الحكومات والهيئات وتحوّلها للسيطرة على الدول والشعوب، أي يجب أن تعود كرة القدم لتحمل رسائلها الحقيقية وتعود إلى مهدها الأول، بعيداً عن سطوة المال الذي أفسد كلّ شيء.

صبري الرابحي
صبري الرابحي
كاتب تونسي نقابي وحقوقي وناشط بالمجتمع المدني ومراسل صحيفة الشعب الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي للشغل. يكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية. مقولتي "كلّ شيء بخير، ما دمت أكتب بدون توقف وبحرية"