"كحاتهم".. كصدى جبال المغرب البعيد

03 ديسمبر 2022
+ الخط -

حضرت نشاطاً ثقافياً بمناسبة مرور 55 سنة على عمر الهجرة المغربية إلى هولندا، نظمه شباب مغاربة مقيمون بمدينة فينلو الهولندية.

حضر اللقاء، إضافة إلى الشباب، مغاربة شيوخ جاؤوا إلى هولندا منذ ستينيات القرن الماضي، وهم الجيل الأول من المهاجرين المغاربة إلى هولندا. الآباء الأوائل للهجرة، المغامرون الأوائل، وبمعنى آخر "الحراكة" الأوائل.

تأملت ملامحهم بعمق، باحثاً عن شيء مجهول، سوى أنّ أكثر ما بدا واضحاً في وجوههم غير محتاج إلى مجهودٍ كبيرٍ لرؤيته: المغرب. لقد حملوا معهم المغرب في قلوبهم، وفي نظراتهم، وفي إيماءاتهم، وما زال واضحاً رغم كلّ هذه السنوات والأجيال، لم يسقط بعد، ولم يُنس بعد.

بعد عشاء مغربي في صحون الطاووس ذات الدلالة العميقة، وبعد افتتاح النشاط ببعض من آيات القرآن الكريم، أخذوا الكلمة وحكوا قصصهم، قصص الهجرة القديمة التي لا تختلف كثيراً عن قصص الهجرة المستمرة حتى اليوم، سوى في بعض التفاصيل. قصص تتشابه، إلا أنّ لكلّ واحدة منها خصوصيتها وتفرّعاتها ودهشتها ونوادرها. لقد أصبحوا اليوم شيوخاً متعبين، كلّ مرّة ينقص عددهم واحداً في صمت دون أن يعوّضه أحدٌ آخر، يختفي فجأة، قد يعود إلى المغرب إلى غير رجعة، أو يمرض وينزوي، أو يموت دون سابق إنذار أو وداع، ومعه تموت الذكرى وتموت القصص والحكايات، والعبر أيضاً.

حملوا معهم المغرب في قلوبهم، وفي نظراتهم، وفي إيماءاتهم، وما زال واضحاً رغم كلّ هذه السنوات والأجيال، لم يسقط بعد، ولم يُنس بعد

عاشوا تجربة حياة مختلفة بالكامل، جديرة بأن تُحكى، ابتداءً من قرار الهجرة المصيري في سنوات الستينيات التي أتخيّلها دائماً ملحمية، وبالأبيض والأسود، إلى ركوب أول باخرة أو طائرة أو قطار بخاري، إلى الوصول إلى الضفة الأخرى الباردة، إلى العمل في الموانئ و"الفابريكات" والمناجم وأوراش البناء والـ"ريسطورات" والهوامش.

لم يكن هناك مسجد واحد، عملوا بجد وكد وصبر عاضين على النواجذ، سكنوا متكدسين في الـ"بانسيونات"، تعلّموا لغة جديدة دون قراءة أو كتابة، بالسمع فقط. وأخيراً شيّدوا المساجد وصنعوا "كومينوتي" خاصاً بهم، مركزه المسجد وزعيمه الفقيه وطقوسه رمضان والأعياد الدينية، وحتى الوطنية والجلابة المغربية والحجاب و"أتاي" و"السفوف" و"الشباكية" والكسكس إلخ..

أنجبوا ونقلوا إلى أطفالهم كلّ ذلك كالتهريب رغم المدّ الجارف للحداثة، ورغم ضغط الإيقاع الهولندي، ليس على وقتهم فقط، بل حتى على أنفاسهم. هندسة بيوتهم هولندية، إلا أنّ أثاثها وروحها مغربية بالكامل، مائة في المائة. من الصينية إلى اللحف إلى البخور القادم من الحرمين.. إلى نبضات القلب.

هندسة بيوتهم هولندية، إلا أنّ أثاثها وروحها مغربية بالكامل

ستصاب بدهشة تصل إلى حدّ الصدمة للوهلة الأولى، وأنت ترى المغرب وسط هولندا بكلّ تفاصيله، لكن سرعان ما ستعرف أنّ سؤال الهوية سؤال وجودي وإشكالي للغاية، وأنّ الهجرة هي الاختبار الحقيقي للهوية، أو بالضبط، هي حالة الطوارئ التي نافذة إغاثتها الوحيدة هي الهوية.

هذا السؤال العويص، سؤال الهوية، طرحه أحد الشباب المنظمين للنشاط على هؤلاء الآباء الأجداد، جاءت أجوبتهم كثيرة ومختلفة، لكن الجواب العميق لم يكن بالضبط هو ما قالوه، فالجواب عن سؤال كهذا يبقى أكبر من الكلمات، بل كان الجواب هو نظراتهم نفسها، لباسهم الصامد، إيماءاتهم، وكحاتهم المنجمية، والتي صداها هو نفسه صدى جبال أرض المغرب البعيدة.

كل هذا يمكننا اعتباره عادياً، أما ما كان مدهشاً بالنسبة إليّ وجديداً عليّ، فهو ذلك الشريط القصير الذي قام المنظمون بعرضه أمامنا، وتضمّن صوراً لأغلب مغاربة مدينة فينلو، ابتداء من الجيل الأول إلى الجيل الحالي. شريط مرفق بموسيقى على الناي. تمرّ الصور كما لو فوق سكة الروح، والحضور يتعرّفون على صاحب الصورة، فيذكرون اسمه، ثم تمرّ صورٌ لموتى، هاجروا.. أقاموا خارج الوطن، باحثين عن وطن آخر أرحم، ثم ماتوا ولا يتذكرهم اليوم سوى مهاجرين أمثالهم، تاركين المشعل في أيدي أبنائهم وأحفادهم، مشعل الهرب المستمر، أو محاولة الاستقرار المستمرة فوق زلازل الكيان والذاكرة والهوية.

صور سحبت الدموع من أعماق جلّ الحاضرين، وقد اكتحلت عيني، أيضاً، بقليلٍ من الدمع، حتى وأنا لا أعرف أيّاً منهم، إلا أنّي شعرت بأنّي أعرفهم جميعاً، واحداً واحداً، فوجوههم ونظراتهم في الصور التي بدت لي مألوفة، هي نفسها تلك الهوية المفقودة/المحفوظة.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.