كانت ميركافا أيضاً.. وكانت غزّة!

08 نوفمبر 2023
+ الخط -

مطلع الألفية، على معبر المنطار شرق قطاع غزة، كان الطفل الفلسطيني فارس عودة يحاول ردع دبابة ميركافا عن التقدّم عبر حجارته الصغيرة، قبل أن يُجهز عليه الاحتلال بالرصاص، تاركاً للتاريخ صورة ظلّت محفورة في ضمير العالم حتى يومنا هذا.

الطفل الذي ظنّوه قضى عند الخامسة عشرة، كبُرَ واتّسع كفّه لما يُدمّرُ، لا ما يُحرج فقط كما في طفولته المختطفة. لم يُلقِها بقاذفٍ (يمتلكه هو ورفاقه الآن) ليدرّع بالمسافة كما تقول قواعد الاشتباك (فهذه قذيفة لها قاذف، ولا تُحمل باليد هكذا)، إنّما قام إليها الفتى مطمئنّاً، تالياً تعويذته (التي أفلحت على مشهد)، ولقّنها إياها كما لقّن الجيش الذي سيّرها درساً باقياً: لم يمت الفتى، ولم يُنسَ شيءٌ من الحكاية.

تبدّدت رهانات المؤسّسين الأوَل والمدلّسين في كلّ سلطة تكتم أنفاسنا، لتحوّط الكيان فيحوّط سلطتهم؛ تبدّدت كما في كلّ اختبار، وها هي تذروها رياحٌ صاحبت طوفان أكتوبر/ تشرين الأوّل.. فلا التطبيع (قديمه ومستحدثه) رسّخ الأرض للكيان ولا ترسّخ هو ذاته، بل يُفقد بعضه ويُتراجع عن بعض، لا في المنطقة وحدها إنّما على البسيطة وحدها، والريادة لاتينيّة كالعادة. كذلك الإلهاء المنظّم تغييباً للوعي (فرديّاً وجمعيّاً) ما خلّف غير أجيال تذكر وتُذكِّر وتبشّر، بل وتُقاوِم.

كانت "طبخة أخرى" غير التي قدّروا لها مقاديرها، تنضج تحت الأسطح المدّعاة على مهل. وهم بغشاوة القوّة ظنّوا أنّ ما أرادوه تحقّق، غير مدركين أنّ السابع من أكتوبر بداية لا ختام، انطلاقة لا خطّ وصول، وأنّ الحاصل على الأرض، وعلى الشاشات، يخلقُ هو أيضاً "طبخةً أخرى" ستكون مفاجأة القادم، لا للخصوم على الجهة المقابلة فحسب، إنّما حتى لذات المعسكر داخله، وخلفه، وحوله.

ظنّوا أنّ ما أرادوه تحقّق، غير مدركين أنّ السابع من أكتوبر/ تشرين أوّل بداية لا ختام، انطلاقة لا خط وصول

وكما ضرب "الطوفان" في "كلوب" الإقليم وحساباته ومؤامرات إعادة تشكيله، يُكرّس الآن في طبقة أقلّ تكشّفاً منه ما قد يُفسد الخطط الجديدة التي تتشكّل على هامش المعركة، لا في المعركة والقطاع (تهجيراً، أو ترحيلاً، وإعادة تسكين، وإدارة مشتركة)، ولا حتى في ملف القضيّة وحدها. وكما يُناقشون هم سؤال "ما بعد حماس" تُناقش المقاومة ومحورها "ما بعد نتنياهو"، وما هو أبعد بكثير.

على الطاولة (المباشرة وغيرها) هناك معادلة أخرى تنبني بتفاعل العناصر على الأرض، والمفاجآت لا تتأخّر.. ومراجعة تصريحات نتنياهو وغالانت (وحتى بايدن) تكشف أنّ الأمور تجري على غير ما أُريدَ لها، وأنّ الجيش الذي لا يُقهر ارتباكاته لا تتوقف، وإخفاقاته لا تنتهي (ولم تكن الغفلة وسوء التقدير قاصرين على صبح السابع من أكتوبر، إنّما أصلٌ متغلغلٌ في عمق تكوينه)، وأنّ محاولات إحداث توازن ما، أو محو وصمة زلزلة الطوفان، تفشل هي الأخرى، بل وتورّط أكثر وتُكشف عنهم غطاءات دوليّة وداعمين كانوا راسخين (ولو بطيئاً ومتأخّراً).

الصورة
ميركافا
(الطفل الفلسطيني فارس عودة يلقي حجراً على دبابة إسرائيلية في قطاع غزة (29/10/2000 ويكيبيديا)

وعلى الشاشة تغيّر الخطاب وزاحمت رواية القضيّة، تلك الملفّقة التي كانت تسيطر وحدها، بل إنّ البعض تراجع أو اعتذر. والجمهرة المنساقة وراء تلك المرويّة الملفّقة بدأت شرائح منها تكشف، علناً، حقيقة تغفيلهم السابق، وإدراكهم الآن لحقيقة الحكاية.

محاولات إحداث توازن ما، أو محو وصمة زلزلة الطوفان، تفشل هي الأخرى، بل وتورّط أكثر وتُكشف عنهم غطاءات دوليّة وداعمين كانوا راسخين

وحتى الهامش المسحوق الذي لم يسمح له بالتنفّس ولا التنفيس خشية الانفلات، استطاع استعادة أدوات (تناسب كونه مسحوقاً) اقتصاديّة أو علنيّة أُهملت طويلاً: دعماً للأهل أو قطعاً عن الخصوم؛ فأنجزوا بها أثَراً لا يُخفى، أدركه المقاطَعون كما المقاطِعون، حق فاعليّة الأدوات كما عن ذواتهم.

أمّا أولئك الذين لم يعوا الدرس بعد، ولم تُفِقهم الزلزلة، فالرجعُ كفيلٌ بالإفاقة، ولعب درس دخول التحرير ردّاً على التفويض أوصل الرسالة، وإن أخطأ المعنيّون تلقّفها كعادة الضخام/الحمقى. السابع من أكتوبر، لم تُحدثه سكّة الحقّ وحدها، إنّما ثارات متتاليات آن ردّها عند أصحابها على سكّة الحق تلك. كذلك الحاصل الآن، على قساوته وجلاله، هو يُنشئ ثارات أخرى ستُفجع الفاعلين والمتواطئين والمتفرّجين بعد وقتٍ قد لا يطول، لأنّ التحرير (تلك المعركة الأخيرة الحاسمة) لا يبدو بعيداً.

وأخيراً: شكّلني "فارس" الأوّل، ذلك الذي واجه الميركافا قبل جيل بحجرٍ وبأس، شكّلني ووجّه حياتي كلّها وما زال، لا لظنّه بأنّه قادر على هزيمتها، إنّما ليقينه بأنّ التراجع أمامها هزيمته الوحيدة، وأنّه وهذا الحجر بكفّه هما احتمالٌ وحيد ألا تنتزع الدبّابة متراً آخر من الأرض التي تخصّه وينتمي لها. سيهزمها: محال، سيعطّلها: ممكن، سيبقى: يقيناً.. وعى فارس حجمه وأثر حجارته ومصيره كذلك، لكنّه عرف دوره بعيداً عن حساب المكسب والخسارة والجهوزيّة، أو حتى القدرة.. وعى دوره وقام به فبقيَ وكبُر، وحمل كفّه الصغير ما يدمِّر الميركافا، لا ما يُحرج فقط، كما في طفولته.