قمامة وقريدس ومواطنة
لا يمكن، أبدًا، اعتبارك مواطنًا كامل المواطنة إذا لم تكن قد أكلت "الكروفيت روايال" (القريدس الملكي) أو لحم الغزال.
في ذلك الصيف البعيد، كنت قد تعلّمت "التميخيل" (عملية نبش حاويات القمامة). لا أقصد قمامة حي أبي رقراق طبعًا، بل قمامة حي السويسي والحي العسكري وحي الرياض المليئة بالفيلات الفخمة. أستاذي في ذلك هو عبد العالي. كان أكبر منّي بأكثر من خمس سنوات، وأطول منّي، ومن الجميع، بكثير. طوله المفرط جعلني أعتقد دائمًا أنّه أقرب منّا إلى السماء، وأنّه يعرف كلّ أسرار العالم، ما ظهر منها وما بطن. "نميخل" ونبيع ما حصلنا عليه من غنائم غريبة في سوق باب الرحبة، صبيحة يوم الأحد، فنكسب مصروفًا لا بأس به من لا شيء.
ذات مرّة، لاحظ عبد العالي أنّي قرفت من هذا العمل غير المشرّف، وأنّي أخجل من إخبار بعض أبناء الحي به، بينما كان هو يقول أمام الجميع إنّنا "نميخل". وليشدّ عزمي وليعيدني إلى الطريق القويم أخبرني ذات صباح باكر، ونحن نحثّ الخطو قي اتجاه سطل قمامة السفير الأميركي قبل أن يسبقنا إليه ميخالة (نباشون) آخرون:
- اسمع، نحن نميخل نعم، هذا صحيح، نميخل زبالة الأغنياء والضباط والمسؤولين الكبار، هذا صحيح أيضًا، لكنّنا لا نتسوّل منهم. نميخل بشرف وبمجهود ولا نكلّم أحدًا منهم، ولن نطلب منهم شربة ماء حتى وإن متنا عطشًا.
لم أجد كلامه مقنعًا إلا أنّه لا يخلو من منطق ومن شحذ للهمّة.
نحن نفتش في زبالة الأغنياء والضباط والمسؤولين الكبار، لكنّنا لا نتسوّل منهم. نفعل ذلك بشرف وبمجهود، ولا نكلم أحدًا منهم، ولن نطلب منهم شربة ماء، حتى وإن متنا عطشاً
وجدت ذات مرّة شريطًا داخل علبة عليها صورة لعبد الحليم حافظ. وضعته في البيت في المسجلة وضغطت على "بلاي". خرج صوت عبد الحليم شجيًا وجارحًا: "جباااار.. في قسوتووو جباااار.. في رقتوووو.. جبار..". آنذاك، كنت أحبّ فتاة تسكن في نهاية الزنقة رقم 19. فكرت أن أهديها الشريط. خمنت مستدركًا، لو أنّها تعلم أنّي أحضرته من "التميخيلة"، فسيفقد صوت عبد الحليم في نظرها، سحره. سيتحوّل إلى صوت آتٍ من سطل قمامة عملاق، وسيتحوّل الحبّ في نظرها إلى عُلب سردين وقنانٍ فارغة وبقايا خضار ونعناع. لم نكن نتسوّل من أحد بل "نميخل" فقط، وبعرق الجبين كما قال عبد العالي، سوى أنّ شيئا كهذا يصعب شرحه لفتاة تنتظر منك وردة من حديقة وليس شريطًا موسيقيًا من مزبلة. قرّرت أن أحتفظ بالشريط لنفسي، وأن أتوّقف إلى الأبد عن "التميخيلة". أخبرت عبد العالي بذلك. كان ردّه عليّ ساخرًا وقاصمًا ومقنعًا بمواصلة العمل.
قال وهو يقلّب كتاب البونديسيني الضخم (كتاب مصوّر) الذي وجدناه في القمامة قبل أسبوع، والشبيه بقطعة حطب في مدفأة الجنرال، ودون أن ينظر إليّ حتى:
- لقد فات الوقت على التوّقف. التميخيلة أصبحت الآن لصيقة بنا. حتى وإن استحممنا بالعطر ستظل رائحة الأزبال داخل جلدك، وليس على سطحه فقط. هل تتوب المومس في نظرك؟ وحتى إن تابت ماذا يقول الناس عنها؟ سيظل الجميع يتذكرها كمومس. سيقولون فلانة التي كانت مومسًا عوض أن يقولوا فلانة فقط. في أحسن الأحوال سيقولون فلانة التي تابت. ذلك التعبير الذي يعني دائمًا أنّها كانت مومسًا.
إن عرفت أنّ ما سأهديها إياه آتٍ من القمامة، سيتحوّل الحبّ في نظرها إلى عُلب سردين وقنانٍ فارغة وبقايا خضار ونعناع
كان عبد العالي حكيمًا للغاية، يستطيع بسهولة أن يقنعك بصواب الخطأ وبخطأ الصواب. واصلنا العمل. لم يكن كلامه وحده مقنعًا لي، بل أيضًا الأشياء الغريبة والعجيبة والتحف التي نجدها في الحاويات. كانت ساحرة فعلا، وكان البحث عنها شبيهًا بإدمان القمار. كلّ يوم تقول غدًا لن "أميخل"، وفي الغد تجد نفسك مهرولًا في اتجاه غموض وسحر قمامة الحي العسكري المليئة بالمفاجآت.
ذات صباح وجدنا "شكلاطة" متحجرة منتهية الصلاحية وبقايا قريدس ملكي. حملت "الشكلاطة"، بينما أخذ عبد العالي بكامل الثقة في النفس في جمع بقايا القريدس. سألته:
-ماذا سنفعل بها؟
-سنأكلها طبعا. أجاب بحسم.
وجدتها فكرة غريبة. لم يكن هناك لحم واضح بين البقايا. قشور فقط. لقد أكل الأغنياء كلّ شيء. رغم ذلك لم يستسلم عبد العالي. كما ينبش الحاويات أراد أيضًا أن ينبش قشور القريدس. ابتعدنا قليلًا عن الفيلات. جلسنا على رصيف لنستريح. فتح عبد العالي الكيس البلاستيكي الذي ملأه ببقايا القريدس وأخذ ينقّب داخله بيده الشبيهة بعنق نسر قِمام، ويأكل. لاحظ أنّي لا آكل. خاطبني وهو يتلذّذ أمامي بصوت مرتفع: "ممممم لذيييذ كل.. كل..". أجبته: "بالصحة". لم تبد لي فكرة سديدة. إنّها قشور فقط، ماذا سآكل؟ ثم إنّها قشور لم نقشرها بأيدينا، بل وجدناها في قعر سطل قمامة. فكرة جنونية أن آكل تلك الأوساخ. أخبرته أنّي سأكتفي بالشكلاطة. لكن طريقته في الإقناع غريبة ورهيبة. خاطبني ساخرًا: "الشكلاطة؟ إنّها منتهية الصلاحية، مسمومة دون شك، أمّا القريدس فما يزال طازجًا". وكي يقنعني بأكل القريدس بشّع أمامي "الشكلاطة" رغم أنّه سيأكل منها بعد قليل. أخبرته أنّي أكلت جيدا في الصباح ولا أشعر بالجوع، محاولًا مراوغته. كان ينقّب القشور بلذّة ويحدّق فيها بعمق كفيلسوف باحثًا عن لحيمات مجهرية عالقة بها.
لا يمكن أبداً اعتبارك مواطناً كامل المواطنة إن عشت حياتك كاملة دون أن تتذوق الكروفيت رويال ولحم الغزال أو أحدهما على الأقل.
-هل سبق لك أن رأيت هذا القريدس. سألني.
- لا.
- إنّه القريدس الملكي يا عزيزي، "الكروفيت روايال"، ثمنه يتجاوز الأربعين ألف فرنك للكيلوغرام الواحد. طعمه يشبه طعم وثمن الذهب. إن لم تأكل منه الآن فلن تأكله أبدًا. إنها فرصتنا، لا يمكن أبدًا اعتبارك مواطنًا كامل المواطنة إن عشت حياتك كاملة دون أن تتذوق الكروفيت رويال ولحم الغزال أو أحدهما على الأقل.
شعرت فعلًا أنّي مواطن بلا مواطنة. لم يسبق لي أن رأيت الكروفيت روايال ولا أن تذوقته، وها هو الآن بين يديّ. عبد العالي ينقّب بأصبعين ويأكل كسلطعون. شعرت أنّ مواطنة عبد العالي قد اكتملت بينما أنا ليس بعد. قرفصت ومددت يدي إلى الكيس ونقبت. تذوقت. طعم ساحر. لا يبيعون الكروفيت روايال بكلّ ذلك الثمن الهائل سدى. يمكن القول إنّ قشوره تشبه في لذّتها لحمه. "الكروفيت روايال يُؤكل كاملًا" قال عبد العالي. لا يمكنك شراء شيء بأربعين ألف فرنك للكيلوغرام ورمي قشوره. أكل قشور "الكروفيت روايال" تحتاج منك أن تتشجع فقط، بعد ذلك ستأكلها بشراهة وبلذّة متمنيًا أن لا تنتهي. خيّم صمت مشبوه فوقنا ونحن ننقب ونأكل. أتينا على الكيس كاملًا. لم يبق أي شيء. لم يضع شيء من الأربعين ألف فرنك..
عدنا إلى الحي بزهو وبشعور منعش باكتمال المواطنة، متأكدين أنّ أغلب أهل الحي (إن لم نقل كلّهم)، بلا مواطنة.