قليل تربية قليل أخلاق

13 ابريل 2020
+ الخط -
أخيراً، وصل صديقنا الظريف أبو نادر إلى قرية "أم زرزور" برفقة شلة الرجال الساخرين الفكاهيين الذين يهوون الضحك والتنكيت وصناعة المقالب الذين يسميهم "شلة فتح الله". كان الهدف من الزيارة حضور عرس "عباد ابن أبو عباد"، وهو عرس (تاريخي) كما وصفه أفراد الشلة، لأن عباد تأخر حتى جاء إلى الحياة، وبقي وحيداً لوالده بجوار عدد من البنات.

بعد عودتهم من هناك بالسلامة، كان أبو نادر جالساً مع صديقه "أبو فريد" في قهوة حمشدو، يحكي له عن تفاصيل الرحلة من بدايتها لنهايتها، وعندما وصل إلى هذه المرحلة قال:
- لما وصلنا عَ الضيعة عامَلونا معاملة الفاتحين الأبطال لما بيرجعوا من المعارك بعدما يكونوا محررين بلادهم المحتلة، أو محتلين بلاد أجنبية وقاتلين رجالها، وجايبين نسوانها سبايا.. التركتور اللي كنا راكبين فيه، وعلى بعد شي مية متر، زمر بطريقة احتفالية، فانتبه صاحب العرس أبو عباد، وأعطى لسائق التركتور إشارة إنه يوقف بأرضه، فوقف، ونحن نزلنا، ونفضنا تيابنا من الغبار، ومشينا كم خطوة، ووقفنا على نسق، وطلع أبو عباد وشي عشرين رجل، على هيئة موكب رسمي، ومشي قدامهم الطبل والزمر، باتجاهنا، نحنا مشينا باتجاههم بخطا بتشبه الخطا العسكرية، وصرنا نعبي صدورنا هوا، ونطنّب لفوق، إلى أن التحمنا معهم في معركة تبويس كنت تسمع صوت المجق فيها أقوى من صوت صليل السيوف في المعارك اللي كنا نشوفها في الأفلام بين إخوتنا العرب والمسلمين والكفار المشركين.. أنا بعرف أفراد شلة حسب الله معرفة جيدة، هاي الشغلة ما بتفرق معهم، إذا واحدهم بيتباوس مع كتيبة عسكرية ما بيهتم، أما أنا أخوكم المسكين الدرويش أبو نادر فبكره التبويس متلما بكره الرجال الخشاين والأعراس.. لما حدا بيبوسني وبيصير مشداقه على خدي بيقشعرّ بدني، ومع هيك، تصور، بهديك اللحظة التاريخية، أنا صرت (مبوسة) للي بيسوى واللي ما بيسوى، وطوال ما أنا عم إنباس كنت عم أقول الله يسامحك يا أبي..

قال أبو فريد: أيش علاقة المرحوم أبوك بهالقصة يا أبو نادر؟


قال أبو نادر: راح أقول لك أيش علاقته. بس طول بالك علي. المهم، بعد موقعة التبويس الحقيرة، مشينا باتجاه ساحة العرس، وشفنا الضيوف والمعازيم مصفوفين على الكراسي، ومبسوطين كتير، عم يصفقوا ويرقصوا، وأنا لهلق ما فهمت، إذا أي عريس، عباد أو غير عباد، تزوج، وفرح، وانبسط، هدول الناس من وين بيجي مصدر السرور تبعهم؟ شي غريب!

فكرت بهالموضوع كتير، وطلع معي إنه سرورهم على الأغلب موقت، يعني بهالعرس بيحصلوا على شوية قيمة، لما بيزورهم حدا من طرف العريس وبيدعيهم وبيترجاهم يجوا يحضروا، وبيسمعوا شوية طرب، مع إنه طرب تعبان، دائماً في الأعراس بيجيبوا مطرب صوته نشاز، وبيخربط بالنغم، وكل شوي الميكروفون بيصفّر، وبيركض الفني بيهديه، وخلال هالطرب التعبان بيصح للشباب الحاضرين إنهم يدبكوا على الطبل، وكل واحد بياكل شوية لحوم خاروف مع برغل وفريكة وعيران، يعني شنينة، وممكن كمان يشرب شاي، وبالأخير بيسحبوا العريس وبيدخّلوه لعند عروسته، وكل واحد من هالناس بيرجع لحياة الفقر والطفر اليومية تبعه.

قال أبو فريد وهو يضحك: أنا شايف إنه هالفصول الغريبة ما بتصير غير معك يا أبو نادر. بدي إسألك، إنته حكيت لي كيف تعطلت فيكم السيارة على طريق ضيعة أم زرزور. بس ما حكيت لي كيف رحتوا عالضيعة؟ ومن وين جبتوا التركتور؟

قال أبو نادر: لما مرت فينا سيارة رايحة عَ العرس اتفقنا مع سائقها يرجع لعندنا ويوصلنا، ووعدناه بأجرة محرزة. لكن اللي صار إنه هادا السائق ما قدر يوفي بوعده إلنا، لأنه هناك، في الضيعة قبضوا عليه جماعة العرس، وعلى رأسهم أخوه لأبو عباد، كمان بينادوا له أبو عباد، اللي حلف للسائق يمين بالطلاق بالتلاتة على إنه ما بيمشي لبعدما يتغدى ويشرب شنينة وكاس شاي.. فالرجل أكل هوا وسكت، وألغى فكرة إنه يرجع يوصلنا، بتعرف ليش؟ لأنه لو قرر يكسر كلام أبو عباد بتصير أختنا أم عباد طالق، وولاد أبو عباد بيتشردوا وبيصيروا أيتام على موائد اللئام.. لذلك، وحرصاً من السائق على تماسك هالأسرة الطيبة قعد ياكل فريكة وكراديش لحم ويشرب شنينة، بينما أنا والشلة التعبانة تبعي بقينا واقفين في هديكة المنطقة المقطوعة. ولما أجا أبو عباد (الأصلي) وعرف القصة، فوراً أعطى أوامره لسائق تركتوره الخاص إنه يروح لعندنا، ويعبينا في التريلا، ويوصلنا ع العرس. وهادا اللي صار.

قال أبو فريد: ركبتوا في التريلا؟

قال أبو نادر: هني ركبوا في التريلا. بصراحة الشلة تبعي أولاد حلال، حلفوا يمينات معظمة على إني أنا إقعد جنب السائق.. دولاب التركتور الأيسر في إله غطا حديدي، وفوق هالغطا بيقعد شخص واحد.. هادا هوي المكان اللي قالوا لي إسمه (جنب السائق)، ومن ميزات هالمقعد إنه لما التركتور بيدوس على نتوء في الشارع، بينط الراكب لفوق وبينزل، على كل حال منحسن نعتبره مكان آمن، لأن لما بيوقع الخطر الراكب بيتعلق برقبة السائق، وهادا بصراحة فيه حل عادل للقضية، لإنه إذا الراكب بده يموت بيموت معه السائق، وعلى قولة المتل: منفعة ناس وضرر ناس مو عدل.

قال أبو فريد: دخلك، وهادا أبو عباد ليش بعت لكم تركتور وما بعت سيارة؟

قال أبو نادر: أنا سألته نفس السؤال لسائق التركتور. فجاوبني إنه أبو عباد الله يطول عمره بيوثق فيه كتير، وبيبعته في كل المشاوير اللي فيها ناس عزيزين عليه. ونحن طبعاً عزيزين عليه، وهوي عزيز علينا بدليل إننا تاركين بيوتنا وعيالنا واشغالنا وجايين لحتى نتباوس وناكل لحم غنم ونشرب شنينة وندبك بعرس ابنه.

قال أبو فريد وهو مستمر بالضحك: وما قلت لي، ليش كنت عم تلوم والدك الله يرحمه، وبتقول الله يسامحك يا أبوي؟

قال أبو نادر: لأنه ما رباني كويس قبلما يموت. أنا قليل تربية طبعاً. لو كنت مربى منيح أيش بياخدني عالعرس؟!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...