قصة حب غريبة

15 مارس 2020
+ الخط -
لم نكن نتخيل أن يأتي يوم نلتقي فيه بزوجة صديقنا "أبو الجود" ونسمع منها حديثاً، أو تعليقاً على حديث، أو حكاية. بعدما تعرفنا عليها عن قرب تولد لدينا إحساس بأن الصيغة المثلى للحالة الكوميدية المتعلقة بـ"أبو الجود" هي أن تقتصر معرفتنا عليه وحده، ونسمع ما يرويه عن زوجته بشيء من الغل والضغينة، فتتولد من جراء ذلك حالة مضحكة، ونرسم لأم الجود في أذهاننا صورة غريبة، إذ نظنها إنسانة شرسة، نكدية، بخيلة، عملها الأساسي في هذه الحياة هو أن تقهر زوجها، وتنكرزه، وتجعله يطفش من البيت ثم لا يطيق العودة إليه. ولكنها في الواقع ليست كذلك.

في جلسة الإمتاع والمؤانسة الأخيرة تحدثت أم الجود عن بعض مشاكل أبنائها الذكور، وكانت تمازح زوجها ببعض التشبيهات الخفيفة، فتقول إنها حاولت منع ابنها "محمود" من عقد خطوبته على زنوب بنت أم زنوب، ولكن تبين إنه الولد عنيد وراسه يابس متل أبوه! وقبل أن تكمل حكايتها استوقفها أبو جهاد قائلاً:

- مع احترامنا إلك يا ست أم الجود، إنتي مهذبة أكتر من اللازم، بتقولي عنيد وراسه يابس متل أبوه؟ قولي بيحرن، بيتَنّح، بيرفس بالجوز، راسه ما بيندار.

ضحك أبو الجود وقال لها: اي اسمعي من عمك أبو جهاد، هادا أبو جهاد واحد ذكي ومهذب، ومساير، لما كان في سورية قبلما يطفش كان ما يقول لأم جهاد غير: بتؤمري يا روحي، متلما بتريدي حبيبتي، وإذا قدمت له فنجان قهوة بيقول لها بالفرنسي.. أشو بيقلا يا أستاذ كمال؟

قال كمال: ميرسي.

قال أبو الجود: أي نعم، بيقلا ميرسي، وبَرْضُون.. وعلى كل حال يا زوجتي المحترمة أم الجود إنتي لازم تحمدي الله وتشكريه لأني راسي يابس وتنح وبرفس بالجوز متلما قال أخونا أبو جهاد.


لاحظ كمال أن وراء العبارة الأخيرة التي قالها أبو الجود حكاية ظريفة فقال:
- لحظة لحظة. أنا بإسمي وإسم الحاضرين بطالب أبو الجود يوضح لنا شلون صبت تناحته ويباسة راسه في مصلحة أختنا أم الجود. طبعاً هادا الشي بعد إذن أم الجود وموافقتها.

قالت أم الجود: خليه يحكي اللي بده ياه، أصلاً أنا ما بشيل كلامه من أرضه، لأن أكتر الحكي اللي بيحكيه تأليف، وما إله أساس من الصحة.

قال أبو الجود: القصة اللي بدي إحكيها للشباب مو تأليف، بالعكس، هيي الحقيقة، ولو كان أبوي وأمي عايشين كنت حطيتهم شهود..

قال أبو محمد: اسمعوا مني يا جماعة، خلينا نسمع القصة من أبو الجود، وبعدها أنا بقول لكم إذا كانت صح ولا كذب، لأن والده لأبو الجود الله يرحمه كان صديقي من زمان، وكان يحكي لي كل شي.

قال أبو جهاد: إنته هيك لبكته، كان مفكر يستفرد فينا بشي كذبة ما بتنزل بقبان، والشهود أمه وأبوه الميتين. يعني اللي بيحب يتأكد يروح ع المقبرة ويسألهم.

قالت أم ماهر: يا جماعة هيك الشغلة تخربطت. على أساس أم الجود بدها تحكي لنا حكاية، وأبو الجود صادرها، وصار هوي اللي بده يحكي، وكمان الأخ أبو جهاد بلش يعرقله. خلونا نرسي على بر.

قال أبو ماهر: روقي حبيبتي، هاي طبيعة جلساتنا. تفضل أبو الجود.

قال أبو الجود: أنا لما كنت شاب كنت إمشي في زقاقات الضيعة أكتر من كلب الطبال أبو حنتورة. وكلما شفت بنت بضرب شعري مشطين ع السريع، وبطلع فيها من فوق لتحت، ومن تحت لفوق، على أمل هيي تطلع فيني، وللأسف ولا وحدة رضيت تنظر في وجهي، كأنه بنات الضيعة كاتبين اتفاق بين بعضهن وحالفين أيمان على إنهن ما يعطوني وجه. ما عدا هاي المستورة اللي قدامكم. كانت جاية من بعيد، ومبتسمة، ولما شافتني زادت الابتسامة، وحطت إيدها على غرتها اللي طالعة من تحت الإيشارب، ومسدت عليها، وهاي الإشارة يعني إنها عم تسلم علي. أنا بوقتها طق عقلي وما عادت الضيعة توسعني، وركضت متل كلب الصيد لعند أمي وقلت لها: اخطبي لي فلانة. وهون بلشت المشاكل.

قالت السيدة حنان: ليش بقى المشاكل لا سمح الله؟

قال أبو الجود: لأن وضعها كان متل وضعي الخالق الناطق. أنا ما حدا عم يلتكش فيني وهيي، ما حدا عم يلتكش فيها.. المشكلة يا شباب إن الأهل إذا بيدخل في عيونهم عمود بيتون كبير ما بيشوفوه، أما إذا بيشوفوا غبراية زغيرة في عين غيرهم بيشوفوها.. وبهالحالة أمي وخالاتي وعماتي ونانتي كلهن رفضوا، وأبوي لما عرف إنه نسوان العيلة معارضات سكت، وقال لحاله:
- هيك أريح. إذا هلق إبني عبد الجواد بده يتزوج الشغلة بتكلف مصاري وما بعرف أيش.
هون بقى يا أبو جهاد ظهرت تناحتي، ويباسة راسي وجحشنتي، وحلفت لأهلي يمين إني إذا ببقى أعزب الشهر والدهر غير هالبنت ما باخد. وعلقنا في بعضنا علقة طويلة عريضة، وأنا صرت كلما دخلت عالبيت أنقي صحن بلور وإكسره، حتى أمي تنغاظ.. وبالأخير ربنا هداهم وسكتوا، ووافقوا إني إتزوج، وصارت هيي زوجتي وخلفنا كومة ولاد، وهلق أنا وهيي ما منطيق بعضنا.

قال أبو محمد: بظن إنه اللي حكاه أبو الجود صحيح. بتذكر صارت في خطبته مشاكل كتير.

قال كمال: فينا نسمع رأي أختنا أم الجود؟

قالت أم الجود: بعتقد إنه كلامه صحيح، لكن اللي بعرفه إنه في عيلتنا صار نفس الشي، أبوي وأمي وإخوتي وعمامي كلهم استنفروا وصاروا يحلفوا أيمان إنهم ما بيعطوني لهادا عبد الجواد اللي طول النهار بيركض في الزقاقات وبيتطلع في النسوان وبيدبل لهم عيونه، ولا في بيده مصلحة، ولا مهنة، ولا وظيفة، ولا بيصير حتى للمخلل.. لاكن يا جماعة الحب بيعمل المعجزات، أنا كتير بحبه لعبد الجواد، وأنا اللي أجبرت أهلي إنهم يوافقوا عليه.

قالت أم ماهر: سؤال خاص. لهلق بتحبيه؟

قالت: طبعاً.

قال أبو الجود: لهلق بتحبيني؟ آخ على هالصواب آخ!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...