في ممارسة الامتنان
عزيز أشيبان
من المؤكد أنّ مصطلح الامتنان يضم من المعاني والأبعاد ما يدعو إلى التفحص والتدبّر والدراسة العميقة. ففي كنهه تستقر عوالم متداخلة من الخيرات والفضائل الخفية والبينة على حدٍّ سواء. كما أنّ مجرّد تردّد كلمة "امتنان" على مسامعنا يوحي بما هو جميل وإيجابي، ويبعث الأمل في النفوس والوجدان.
تميل الذات البشرية بطبيعتها وفطرتها، وتبعاً لقناعاتها ونزواتها وسلطة اللاشعور إلى خيارين متناقضين، يحيل كلّ منهما إلى مقاربة قائمة بذاتها، وتتحوّل إلى نمطِ عيشٍ وممارسة. وحقيقةً، قد تُبدي الذات الامتنان بالقدر الذي قد تعرض عنه وتميل إلى الجحود، وقد يقع التذبذب بين الخيارين بعبورٍ سلسٍ لتلك الفجوة الرهيبة التي تفصل بينها، مع تغيّر الأحداث، وتقاذف أمواج الظروف بتفاصيل الحياة الفردية والجماعية.
ربّما من المفيد الخوض في ثنايا المقاربتين تبياناً لهول الفارق والاختلاف في المدخلات والمخرجات بينهما، مع التركيز على المقاربة الأولى إنصافاً لحمولتها التي تحظى بالإطراء والمدح دون التمعن العقلاني في ثراء عناصرها ومقوّماتها.
في الخيار الأول، الذي تضرب إليه أكباد الإبل طلباً للحكمة وأبجديات فن العيش، يجري التعبير عن الامتنان من خلال نسج كلمات وعبارات يحرّكها الاستشعار والصدق ونيّة التعبير الخالص، أو من الإقدام على أفعال ومبادرات جميلة، أو من رحم إبداء المشاعر النبيلة، وبعدم نسيان ما تلقت الذات من معروف أو إحسان مهما كان حجمه أو وقعه.
مجرّد تردّد كلمة "امتنان" على مسامعنا يوحي بما هو جميل وإيجابي، ويبعث الأمل في النفوس والوجدان
ومن النافل القول إنّ التعبير عن الامتنان للمولى عز وجل يستقر في قمّة تراتبية من يوجّه له فعل الامتنان بفضل نعمه التي لا تُحصى، ولا تُعد، وتفوق الإدراك البشري، وعلمه الواسع الذي أحاط بكلّ شيء علماً. نتحدث بعد ذلك عن مقام الأنبياء والرسل، ثم الوالدين والأقربين والفاضلات والأفاضل من جنود التربية والتعليم، وكلّ من دافع عن كرامة وحقوق الناس أجمعين، وخدم البشرية، وساهم في نشر فضائل القيم، وإغناء المعرفة بالأفكار والأبحاث والاختراعات العلمية والإبداعات الأدبية، ثم الوقائع والتجارب التي صنعت الشخصية ومنحتها المناعة والنضج والبصيرة، دون أن نهمل وجوب الامتنان للذات بإبداء الحب لها والاحترام، دون الوقوع في الأنانية والاعتداد بالنفس، وتقبّل نواقصها والمصالحة معها. قطعاً، لا نميل إلى بناء تراتبية خاصة بممارسة فضيلة الامتنان، بل نسعى فقط إلى الدعوة إلى ممارسة الامتنان، وتحويله إلى طقوس يومية لنشر الإيجابية ومحاربة تصوّرات وممارسات التدمير الذاتي والجماعي.
في فضيلة النزوع نحو الامتنان يستقر الاعتراف بالجميل وبإسهام الآخرين والميل نحو نشر الإيجابية والتفاؤل بين الناس. ونحن نميل إلى القول إنّ هذا التوّجه الجميل والبنّاء والمحمود يقود إلى:
- تغيير التصوّرات الشخصية حول الحياة والأشياء، والتركيز على الجانب الإيجابي في قراءة الأحداث وردات الفعل وسلوك الناس. إنه خيار الإيجابية والتشبّث بالأمل بامتياز.
- في الاعتراف بالجميل رد الاعتبار لإنسانية الإنسان، من خلال تحفيز وتنشيط القيم الجميلة، وتقوية العلاقات الإنسانية، والحث على العطاء وخدمة الآخرين وسحق لمنطق "مصلحة مقابل مصلحة"، أو ما يروّج له بـ"رابح رابح".
قد تُبدي الذات الامتنان بالقدر الذي قد تعرض عنه وتميل إلى الجحود
- تُحيل ممارسة الامتنان إلى الانكباب على الذات، من أجل اكتشاف دواخلها ومعالجة نواقصها واضطراباتها، والابتعاد عن تقمّص دور الضحية والإيمان المبالغ فيه بنظرية المؤامرة. نتحدث هنا عن منحى التطوّر المستمر والمستدام في مسار بناء الشخصية، وفتح آفاق ممكنات الارتقاء والتحسّن والبناء الذاتي.
- الرضا الذاتي والسلام الداخلي خدمة للجانب الروحي الصرف وعدم الانسياق الجارف وراء نداءات الغرائز البدائية.
على الضفة الأخرى، تنتاب مقاربة الجحود تناقضات داخلية تؤدي إلى التراجع والهدم. كيف لا وفي كبدها إعراض ضمني عن الاعتراف بإسهام الآخرين، وإنكار للنعم، ونشر للسلبية والإحباط، وتغذية لنزعات النرجسية والأنانية، وتقوقع شاذ في أحضان الذات، وتزكية أوهام محاسنها، والإعراض عن مساءلة حقيقتها. قد نتحدث عن استسلام تلقائي ليقينيات تفوّق الذات وتميّزها عن الآخرين، وتوجهها نحو العزلة والتهميش إرادياً، وبدون إدراك واعتناقها خيار التراجع والتأخر والتقلّص.
إذا كان الخالق بجلالة قدره وعظمته قد عبّر عن الامتنان للمخلوق، وبعبارات مباشرة وصريحة رغم أنّه المنزه عن التوصيف والمقارنة والمساءلة، فهل من مبرّر للذات البشرية للنزوع نحو الامتناع والإعراض والتكبّر عن ممارسة فضيلة الامتنان والشكر؟
شكرًا للقراء الكرام على وقتهم المهدى.