في الحنين إلى شعار اقرا الحادثة (2/2)

02 نوفمبر 2021
+ الخط -

مع الأسف لم يكن الفصل الأول من المسرحية على قدر أمنياتي، لا أنا ولا السيدة العجوز التي قالت لي تعليقاً غريباً جداً في الاستراحة: "انظر.. لن تستمر هذه المسرحية طويلاً.. كيف يمكن أن تنجح مسرحية في برودواي وبها فتاة وحيدة ترتدي فستانا طويلا طيلة العرض". كنت قد وجدت في قدوم الاستراحة فرصة سانحة لكي أتحرك وأستعيد علاقة جسمي بالفراغ المحيط به، كان الزوجان الملتصقان قد أخليا مقعديهما فسارعت بالنهوض مستمتعاً بالفراغ الذي لاح لي فجأة. فوجئت بأن السيدة العجوز لم تتحرك من كرسيها، وعندما سألتها عن سر ذلك قالت لي وهي محرجة إنها تخشى أن يختل توازنها فتسقط على الدرج، وأنها تخاف من المرتفعات، ولذلك لن تكرر الخطأ ثانية وتحجز في البلكون الذي ظنّت أنه سيكون أفضل في المشاهدة، فعدت إلى الكرسي لأجلس إلى جوارها متضامناً معها ومفضلاً مواصلة الاستماع إلى تحليلها المسرحي لبقية مسرحيات برودواي التي كانت دون مبالغة قد شاهدت أكثر من ثمانين في المئة منها.

لحسن الحظ لم يكن النصف الثاني من المسرحية مخيباً لآمال كلينا، فقد أبدع فريق الممثلين في تقديم استعراضات جعلت العرض بهجة حقيقية، ليثبتوا للسيدة العجوز أن البهجة يمكن أن تتحقق من غير أفخاذ عارية. بالطبع لا يقف التيار السلفي وراء خروج المسرحية على هذا النحو، كل ما في الأمر أن دراما المسرحية لا تتطلب وجود راقصات، فلم يتم حشرهن لإرضاء الزبون، والسيدة العارية الوحيدة في المسرحية كلها كانت مغنية سوداء يفترض طبقاً للدراما أنها تمتلك ملهى ليلياً يذهب بطل المسرحية لكي يرسم لها لوحات المناظر الطبيعية التي تقف لتغني أمامها، كانت المغنية بديعة الصوت، وضخمة من كل الأبعاد، كدت أموت من الضحك والإحراج عندما صدرت مني أثناء غنائها ضحكة مصحوبة بصوت إسكندراني كبحته بالعافية، بعد أن مالت عليّ السيدة العجوز لتقول لي: "دعنا نشكر الله أنها تقف على المسرح ولم تجلس هي الأخرى إلى جوارنا".

انتهى العرض وسط تصفيق حاد متواصل استحقه الممثلون بجدارة، وقبل أن يهم الجمهور بالاستعداد للخروج، أمسك أحد الممثلين بميكروفون وقال بابتسامة عريضة للجميع: "السيدات والسادة يرجوكم بوليس نيويورك أن تبقوا في أماكنكم لمدة ربع ساعة لأن السيد الرئيس باراك أوباما يدخل إلى المسرح المواجه لمسرحنا الآن، وسيتطلب الأمر عدة دقائق لتأمين دخوله، لذلك يرجى البقاء في أماكنكم". ضحك الجميع لأنهم ظنوا أنه يلقي نكتة، لكن أبواب المسرح كانت لا تزال مغلقة بالفعل وأنواره كانت لازالت مطفأة، كرر الرجل كلامه ثانية مؤكدا على صدقية ما يقوله ليسود هرج ومرج بين الحضور، وقبل أن يعم التذمر أرجاء المسرح خرج أحد أبطال المسرحية ليقول للحاضرين إنه يريد أن يشاركهم اليوم في احتفاله بعيد ميلاده، لا أدري إذا كان قد فعل ذلك بتوجيهات من إدارة المسرح لمساعدة الناس على تنفيذ تعليمات البوليس، لكن المسرح فجأة انتابته حالة من الحماس عندما قال البطل أنه سيقدم هدية لجمهور المسرحية في هذا اليوم الخاص، وهي أنه سيطلب من زملائه أن ينضموا إليه على خشبة المسرح ويجيبوا على أي أسئلة توجه إليهم من الجمهور.

تستطيع أن تدرك لماذا تخيلت في البداية أنني دونا عن غيري سأتعرض لمشكلة لو شاركت الباقين في التقاط الصور، لكنني تشجعت عندما وجدت حشودا من السياح

كنت أتمنى أن تتاح لي فرصة السؤال عما إذا كان هناك كرسي فاضي يمكن أن أنتقل إليه لأنني لم أعد اشعر بأغلب جسمي من التنميل، لكنني خجلت من إحباط فرحة جميع من حولي بما يحدث، خصوصا السيدة العجوز التي شدت على يدي بحماس وقالت: "يا إلهي، هذه لحظات خاصة، لأول مرة في حياتي أدخل مسرحية ويحدث لي ذلك"، قبل أن تنسى خوفها من الارتفاعات، وتشب على قدميها وهي ترفع يديها لكي تطلب حقها في السؤال، وعندما لم يلتفت لها الممثل الموجود في الخشبة التي تقع أسفلنا، نادت عليه باسم الشخصية التي يلعبها، وعندما التفت إليها وهو يضع يده على عينيه لكي يهرب من الإضاءة، طلب منها توجيه السؤال الذي لم يكن سوى طلبها أن تقبله قبلة فرنسية طويلة، ضج المسرح بالضحك، وعندما أبدى موافقته، كادت تقفز من الأعلى إلى خشبة المسرح، ولا أدري حتى هذه اللحظة كيف تحولت فجأة إلى لاعبة جمباز لتقفز من فوق كل الأجساد المكتظة بالسكان التي تحيط بها لتصبح في غمضة عين على الباب المؤدي إلى صالة المسرح، لأراها بعد ثواني وهي تصعد على السلم المؤدي إلى خشبة المسرح مهرولة وسط تصفيق حاد، قبل أن ترمي بنفسها في أحضان البطل الشاب، وتقبله من فمه قبلة أزعم أنها ستكدر صفوه العاطفي طويلا، ثم نزلت من على المسرح وهي تصرخ باهتياج لا أظن أنها شعرت بمثله أيام المرحوم أبدا.

بعدها طلبت فتاة اسمها روزالين من الفرقة أن تغني لها أغنية بمناسبة عيد ميلادها الذي يحل اليوم، وعندما غنى لها الممثلون دوت أصوات صرخات لم تبد لي معبرة عن الفرحة، وقد كنت محقاً، فقد فقدت روزالين الوعي فور أن شهدت تلك "اللحظة الفارقة"، وانشغل المحيطون بها بمحاولة إفاقتها، فيما كان كل من في المسرح يستمعون باستمتاع إلى أسئلة عدد من أطفال المدارس الحاضرين للعرض والذين كانت أسئلتهم شديدة العمق كما يليق بمن يتلقى تعليما محترما كالذي يتلقونه، فقد سألوا عن الفترة التي تطلبها التدريب على الرقص، وكيف يمكن أن يكون الإنسان ممثلا مسرحيا ناجحا، وهل شاهد الممثلون الفيلم القديم الذي أنتجته ديزني وما رأيهم في أداء أبطاله؟ قبل أن يتوقف سيل الأسئلة بإعلان من إدارة المسرح أن الرئيس أوباما دخل بسلامة الله إلى المبنى المجاور وصار من حقنا أن نتحرك لكي نخرج من المسرح، صفقنا جميعا لأبطال المسرحية بحرارة، وخرجنا من المسرح. كنت سعيداً بأنني لازلت قادراً على المشي بعد ساعات من الحشرة الإجبارية، كانت الحركة بطيئة للغاية لأن الذين سبقوا إلى الخروج من المسرح أصروا على التوقف لالتقاط صورة تذكارية للسيارة الرئاسية الخاصة بأوباما التي كانت تقف أمام باب المسرح وقد أحاطت بها خيمة بيضاء عرفت أنها تستخدم لحماية الرئيس عندما يزور مدناً مزدحمة مثل نيويورك بحيث يتمكن من الخروج من السيارة ودخول المبنى الذي يقصده دون أن يصبح هدفاً مكشوفاً لأي قناصة يقفون في المباني العالية المجاورة.

تستطيع أن تدرك لماذا تخيلت في البداية أنني دونا عن غيري سأتعرض لمشكلة لو شاركت الباقين في التقاط الصور، لكنني تشجعت عندما وجدت حشودا من السياح من مختلف الجنسيات تقوم بالتصوير وسط حالة من الفرحة العارمة، كان رجال حراسة أوباما الذين يحيطون بالسيارة يقفون وهم يضعون على وجوههم ابتسامة عريضة بدا جليا أنها جزء من حزمة التعليمات التي يصر عليها مسئولو العلاقات العامة الذين لا يريدون خسارة صوت انتخابي واحد في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد أشهر. وقف رجل يبدو أنه الأقدم رتبة والأكثر أهمية لكي يطلب من الحاضرين التحرك بسرعة لأنهم إذا كانوا يعتقدون أن الرئيس أوباما سيخرج قريبا فإن ذلك لن يحدث، لأنه دخل للتو.

سألت سيدة "شكلها فاهمة شويتين" كانت تقف إلى جواري وهي تراقب الموقف بوقار عن اسم المبنى الذي دخل إليه أوباما، فقالت لي أنه مسرح كبير جاء إليه أوباما لكي يحضر حفل جمع تبرعات لحملته في الانتخابات الرئاسية التي كانت على مرمى عدة أشهر حيث سيلقي في الحفل خطابا سيقدمه فيه بيل كلينتون، فحمدت الله لان السيدة لم تطلب من رجال الخدمة السرية أن يلقوا القبض عليّ بتهمة جمع معلومات عن رئيس البلاد.

واصلت سيري وسط الحشود البشرية مستمتعاً بأن كل من يسيرون إلى جواري ليسوا بدناء مثلي، فجأة وجدت السيدة العجوز أمامي وهي تقف في مواجهة صف الحرس الرئاسي لتقول لهم بصوت عال وهي ترفع اصبعها محذرة بجدية: "عليكم أن تأخذوا بالكم من رئيسي جيدا.. لن أسامحكم إذا جرى له شيء"، قبل أن تصرخ بصوت عال وهي توجه رأسها باتجاه الخيمة وهي تتحدث كأن أوباما يسمعها: "أوباما أحبك يا رجل..

أتمنى أن تتمكن من إقناع هؤلاء الأثرياء الأوغاد بدفع الكثير من المال لك"، علّق على كلامها رجل ستيني يبدو متجهماً للغاية: "لا تقلقي يا سيدتي في نهاية المطاف سينجح لأنهم يريدون له أن ينجح"، نظرت العجوز إليه شزرا، ثم ابتسمت عندما رأتني، وأقبلت نحوي وهي لازالت تسدد نظرات نارية للرجل، قبل أن تميل عليّ لتقول لي "يبدو أنه من أولئك اليساريين المهاويس"، قلت لها ضاحكاً: "تعرفين يا سيدتي لو أنك في مصر خاطبت حرس الرئيس هكذا لما كنت قادرة على دخول المزيد من المسرحيات الموسيقية"، نظرت إليّ ضاحكة وقالت لي هامسة وهي تشير إلى الرجل الذي أغضبها: "قل كلامك لهذا الأحمق لكي يعرف أهمية أن تكون أمريكيا"، لم أضحك هذه المرة، وظللت أسير إلى جوارها وسط الحشود صامتاً، لكنها أعادتني لكي أصدر ضحكة مجلجلة في قلب الشارع عندما قالت لي: "هل تعرف أنني نادمة على تقبيلي لذلك الوغد النحيل"، ظننت أنها تذكرت المرحوم، لكنها فسّرت لي أنها تقصد الممثل الذي قبّلته عندما قالت: "لم أكن أعرف أن الممثلين عندما يرقصون لمدة ساعتين تكون رائحة عرقهم كريهة إلى هذا الحد".

...

ـ فصل نشرته عام 2012 من كتابي (التغريبة البلالية) الذي صدر عن دار الشروق، وتصدر طبعة جديدة له قريبا بإذن الله ـ

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.