في أهمية واستحالة ترشيد الغضب (3 من 3)

30 ديسمبر 2020
+ الخط -

لم ينجح الغضب الممتزج بالقلق الذي استشرى في عدد من الولايات الأمريكية وخصوصاً ولايات الغرب الأوسط بسبب الحديث عن مطالب تفكيك البوليس وتقليل أو تجميد تمويله، في إقناع أغلب سكان مينيابوليس بالتخلي عن سخطهم على أداء ضباط مدينتهم الذي أدرك الكثيرون أنه أداء منفلت قابل لإشعال المدينة في أية لحظة، لكن وتيرة التغيير في أحوال الشرطة في المدينة جاءت أبطأ مما كان يتوقع الكثير من المتحمسين، ففي الأسبوع الماضي فقط، أي بعد حوالي سبعة أشهر من حادث قتل جورج فلويد، صوّت مجلس مدينة مينيابوليس على اقتطاع ما يقرب من 8 ملايين دولار من ميزانية الشرطة، بما يعادل 4.5 في المئة من الميزانية السنوية للشرطة، وقام بتوجيه هذه الأموال التي تم اقتطاعها إلى مجالات العمل الاجتماعي وأنشطة الوقاية من الجريمة التي يقوم بها مثلاً الوسطاء في قضايا المنازعات والأخصائيون الاجتماعيون الذين يعملون مع الأسر التي تشهد مشاكل واضطرابات بالإضافة إلى دعم الأخصائيين في الصحة النفسية والعقلية.

كان مجلس المدينة قد تعهد قبل أشهر بتخفيض عدد العاملين في الشرطة في المدينة من 888 إلى 750، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك بعد أن هدد عمدة المدينة بإصدار فيتو على القرار، ومع ذلك فقد نقص عدد الضباط العاملين في المدينة حوالي 166 ضابطاً في الشهور الماضية، بعد أن استقال عدد من الضباط وقام ضباط آخرون بادعاء أنهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة منذ أن شهدوا المواجهات التي دارت مع المتظاهرين الغاضبين والتي أدت إلى حرق قسم شرطة وعدد من سيارات الشرطة وإصابة عدد من الضباط. وفي الوقت نفسه ارتفعت نسبة الجرائم العنيفة في المدينة حوالي 26 في المئة خلال عام 2020 طبقاً لإحصائية رسمية نشرتها مجلة (ذي ويك) الأمريكية، كما قالت إحصائية أخرى أن نسبة الجرائم العنيفة التي بلغت حوالي 33 في المئة في أول تسعة شهور من عام 2019 ارتفعت في أول تسعة شهور من عام 2020 إلى حوالي 61 في المئة، وهو ما يرى الكثير من المراقبين المتشائمين أنه سيؤدي إلى التراجع عن القرارات الأخيرة التي اعتبرها البعض انتصاراً لفكرة معاقبة ضباط الشرطة المنفلتين، واعتبرها البعض نذير شؤم يهدد بالمزيد من العنف والجرائم.  

في منتصف أغسطس 2020، وقبل أن أغادر مينيابوليس وأذهب إلى شيكاجو، اندلعت في شيكاجو مظاهرات حاشدة بعد أن أطلقت الشرطة النار على مواطن أسود قيل فيما بعد إنه كان ضالعاً في نشاط إجرامي، لكن الطريقة التي تم قتله بها قلّبت المواجع على سكان المدينة وبالأخص في قسمها الجنوبي الذي تسكنه أغلبية سوداء، وتطورت المظاهرات إلى أحداث شغب عنيف، أصيب فيه العشرات من رجال الشرطة، وتم نهب العديد من المحلات الفاخرة الموجودة في المنطقة الراقية التي يطلق عليها تعبير the magnificent mile أو المربع الذهبي إن شئت ترجمة غير دقيقة، لدرجة أن مسئولي المدينة اضطروا إلى رفع الجسور التي تربط بين منطقة وسط المدينة وباقي أحياء شيكاجو وهو تصرف قرأت أنه لم يحدث منذ عقود، وبالطبع تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الصور والفيديوهات التي تتكرر دائماً مع كل مظاهرات تتحول إلى حوادث شغب، والتي قد تختلف تفاصيلها لكنها تشترك دائماً في وجود مشاهد لشباب وصبية سود ينهبون محلات الأحذية الرياضية، ليحصلوا على ماركاتهم المفضلة منها.

حين وصلت إلى المدينة بعدها بأيام كانت كل الصحف والمواقع والقنوات التي اطلعت عليها مشغولة بالحديث حول خطورة تبرير النهب والشغب وأضرارهما على المطالبين بإيجاد إصلاحات جذرية في طريقة أداء الشرطة وتعاملها مع الأقليات، أكثر من انشغالها بالحديث عن أداء الشرطة المنفلت، ومع أن الجدال الدائر لم يخلُ من أصوات تنقد الاستعباط الذي يجعل البعض يركز على إدانة النهب والشغب، دون أن يتحدث عن أسبابهما، ودون أن يطالب بمحاسبة المسئولين الحقيقيين عنهما من ضباط وسياسيين ومشرعين وأصحاب نفوذ، ذلك الاستعباط الذي يفضل أن يستأسد على المحرومين الذين رأوا في نهب المحلات فرصة لتحقيق أحلام قد تكون بلهاء لكنها الأحلام الوحيدة القابلة للتحقق، وقد حرص من يدينون ذلك الاستعباط على التأكيد أن ذلك التطهر الأخلاقي الذي يقوم به البعض في أوقات كهذه، لن يقوم بحل مشكلة المدينة مع العنف من جذورها، بل سيؤدي إلى تسكينها حتى تندفع من جديد بصورة أقوى وأقسى.

لا أدعي أنني أصبحت خبيراً بأحوال شيكاجو، لمجرد أنني أقمت فيها أسبوعين، لكنني أزعم أنني وجدت أن نبرة الحديث عن تفكيك البوليس وسحب تمويله كانت خافتة فيها إلى حد كبير مقارنة بما سمعته في مينيابوليس وفي نيويورك قبلها، لأن شيكاجو تعاني من مشاكل خطيرة في ملف العنف والصراع الدامي بين العصابات المسلحة خصوصاً في القسم الجنوبي من المدينة، لدرجة أن جميع النصائح التي تقرأها على الإنترنت، ثم يؤكدها لك من تسألهم من سكان المدينة، تحذرك من التواجد في مناطق بعينها في القسم الجنوبي من المدينة، بل ويضيفون إليها مناطق أخرى ملاصقة لها يصبح من الخطير أن تسير فيها بمفردك ليلاً. لا زلت أذكر كيف تعامل صديق معي بوصفي مجنوناً حين قلت له إنني سرت بمفردي قبيل منتصف الليل في منطقة (واشنطن بارك)، وهو ما حدث ليس لأنني كنت أختبر شجاعتي أو أقوم بتحقيق استقصائي على الطبيعة، بل لأنني سرحت خلال المشي وأنا قادم من حديقة (بورنهام) الخلابة المطلة على بحيرة ميشيجن، ولم أكن أتصور أن الفاصل الجغرافي بين المناطق الخطيرة والآمنة، يمكن أن يكون ضئيلاً إلى ذلك الحد.

بدون مبالغة، لم أقض يوماً في شيكاجو دون أن أسمع عن جرائم عنف مسلح أو تبادل إطلاق نيران بين عصابات نتج عنه قتل شخص أو جرح أشخاص، ولذلك لم أستغرب تصاعد نبرة الانتقاد بين كثير من سكان المدينة لدعوات تفكيك البوليس أو إيقاف تمويله، خصوصاً بين المواطنين السود الذين يسكنون المناطق التي تئن من وطأة العنف المسلح، ومع أن هؤلاء يقرون بالجرائم التي يرتكبها البوليس بحق مواطنين سود أو لاتينيين، ويدركون أن هناك مشاكل كثيرة ترتبط بأداء الشرطة في المناطق الفقيرة من المدينة، ويتهمونها بتدليل سكان المناطق الغنية أو المرضيّ عنها، إلا أن الحديث عن تفكيك البوليس أو تجميد تمويله يستفزهم ويدفعهم إلى أن يسمعوك "من المنقّي خيار" إذا سألتهم عن رأيهم في هذه الدعوات.

أذكر أن حلاقاً أسود قال لي إنه لم يكن يتصور قدوم اليوم الذي سيضطر فيه للدفاع عن البوليس والتأكيد على أهميتهم، وذلك في نقاش دار بينه وبين ابن أخيه الذي وصفه بأنه "طالب جامعي تافه يتصور أنه سيقوم بتشكيل العالم على مزاجه"، وبالطبع لم يكن من الآمن أن ألعب دور محامي ابن أخيه، لأنه كان يتحدث بانفعال وهو يلوح بالمقص والموس، لكنني في نهاية "الحَلقة" خرجت منحازاً في السر لابن أخيه، لأن صاحبنا اتضح أنه موهوب في الرغي أكثر من موهبته في الحلاقة.

هل يمكن أن أنكر على ذلك الشاب قريب الحلاق والذي يمثل مئات الآلاف من الشباب الأمريكي من مختلف الأعراق والمدن رغبته في تشكيل العالم على مزاجه؟ هل يمكن أن أنسى أنني كنت مثله يوماً ما أرغب في تشكيل العالم على مزاجي؟ هل سيتأثر ذلك الشاب لو ألقيت عليه محاضرة طويلة عريضة عن خطورة الاستسلام للغضب دون ترشيد ولا عقلنة، وكيف يمكن أن يستفيد من ذلك الظلمة والفاسدون الذين أشترك معه في كراهيتهم وتمني الإطاحة بهم؟ لكن في الوقت نفسه هل يمكن أن أتعالى على مشاعر ذلك الحلاق الرديء الذي يمثل الملايين من الأمريكيين الخائفين على أرزاقهم والراغبين في أن تمر أيامهم بأقل خسائر ممكنة؟ هل سيفرق معه ببصلة أي كلام أقوله عن خطأ الرضا بالقليل وعدم الانحياز للإصلاح الجذري وتأجيل المواجهة؟ أم أنه سيفضل دائماً منح صوته لمن يقدم حلولاً واقعية قابلة للتنفيذ، وإذا لم يجدهم سيفضل السكوت والانشغال بهمه اليومي موجهاً غضبه ضد الغاضبين الذين سيراهم منفلتين وأغبياء، وربما تحالف ضدهم مع أعداء حقيقيين له؟

إذا رأيت أنني أقدم لك أسئلة عويصة ليس لها إجابات، فدعني أضيف إليها أسئلة أخرى يمكن أن تضعها في حسبانك وأنت تتأمل أسئلتي التي لا أهدف إلى ما هو أبعد من مشاركتك فيها: هل يمكن أن ننسى أن الغضب الجامح والطائش أحياناً يؤدي إلى رفع سقف المطالب والأمنيات، ويكون له تأثير كبير على تغيير لغة الخطاب السياسي السائدة، خصوصاً حين يكون هناك كيانات سياسية قائمة بالفعل، يمكن أن تتفاعل مع الحركات الغاضبة سواءً كان هذا التفاعل مجرد استثمار سياسي لحظي أو قراءة واعية لنواقيس الخطر التي يدقها ذلك الغضب ويشير إليها؟ ألم يعلمنا التاريخ خطأ الانشغال أكثر من اللازم بالغاضبين أكثر من اللازم، لأنهم بعد أن تنتهي طاقتهم يتحولون أحياناً إلى قوى معطلة أو خامدة، وأن ننشغل أكثر بمن يدركون أهمية ترشيد الغضب وعقلنته ـ مع مراعاة إدراك الفرق بين العقلانية والعلوقية أو العلقلانية إن شئت ـ ونضُمّ عليهم بما استطعنا من جهد أو رأي أو دعم، لأن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه، ولأن الحياة ستعلمنا جميعاً أنها لا تقدم حلولاً نهائية، لكن البحث عن تلك الحلول النهائية والحلم بها والسعي من أجلها، سيظل أشرف وأنظف من الرضا بالعفن والانحطاط والأمر الواقع.

والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.