في أهمية واستحالة ترشيد الغضب (1 من 3)

28 ديسمبر 2020
+ الخط -

يومها كنا ما صدقنا خرجنا، بعد أسابيع طويلة وكبيسة من حبسة البيت، لنتجمع في حديقة تطل على النهر الشرقي في نيويورك، ملتزمين بإجراءات التباعد والتصافح بمرافق الأيدي أو كعوب الأقدام. كانت خروجة جميلة ومنعشة للروح، كاد يفسدها ذلك الصاروخ اللعبة الذي انطلق نحونا من مكان غير معلوم، وكان يمكن أن يصيب وجه أحدنا أو تشبط ناره في ملابسه، لكن الله ستر، وحين استوعبنا الصدمة ووقفنا لنبحث عن مصدر انطلاق الصاروخ ونشتبك مع من صوّبه نحونا، سمعنا أصوات ضحكات رقيعة تنبعث من طرف الحديقة، ثم أصوات صراخ وشتائم أعقبها جري أب كاد صاروخ آخر يصيب أطفاله، فقرر أن يجري وراء المراهقين الذين رأيناهم من بعيد وهم يجرون مبتعدين عن الحديقة بعد أن عكروا صفو من فيها.

قبل أن نعود إلى جلستنا، اقترب منا رجل لاتيني يحمل طفله الرضيع، وابتدرنا بالكلام رغبة منه في فشّ غلّه ليس من أولئك المراهقين فقط، بل من أحوال نيويورك التي رآها مائلة ومنذرة بالأسوأ، مشيراً إلى الأب الأمريكي من أصل أفريقي الذي كان يجري وراء المراهقين الذين قال اللاتيني أنهم "عيال مدللون"، وقال إنه لو كان هناك ضباط شرطة في المكان لما اضطر الأب إلى الجري وراءهم ليعرض نفسه للخطر، بل ولما جرؤ هؤلاء العيال على رمي الألعاب النارية باتجاه الجالسين في الحديقة، ثم نظر إلينا غاضباً وقال إن على الحمقى الذين ينادون بتفكيك الشرطة وقطع التمويل عنها أن يتعظوا من مثل هذه الحوادث، وينظروا إلى الجرائم التي زادت معدلاتها في نيويورك قبل أن يفتحوا فمهم بتلك الشعارات الغبية التي ينادون بها في المظاهرات، ومع أننا لم نعلق على ما قاله بالسلب أو بالإيجاب، بدا لنا أنه مستعد للمضي في مرافعة غاضبة عن حاجة أهالي نيويورك إلى الشرطة التي يمكن في غيابها أن نعيش أياماً لعينة كالتي عاشها سكان المدينة قبل عقود، وأنه يخاف على مستقبل طفله ورزقه، ولا يعرف كيف يوصل صوته إلى أولئك المتظاهرين الطائشين الذين لا يفهمون شيئاً، وبالطبع لم يكن من الحكمة أن نناقشه في رأيه، مع أن بعضنا كان مستعداً لذلك، فاكتفينا بمحاولة إضحاك طفله ورمينا عليه السلام وتركنا الحديقة.

كانت نيويورك في تلك الأيام من شهر يونيو 2020 تشهد كغيرها من المدن الأمريكية الكبرى مظاهرات حاشدة تشتعل بالغضب على رجال الشرطة عقب نشر الفيديو المريع الذي صور في أواخر شهر مايو قيام عدد من ضباط شرطة مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا بقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد بطريقة وحشية، فقلّب على الكثيرين في عموم البلاد مواجع حوادث قتل استهدف بها ضباط الشرطة عدداً من الأمريكيين من أصل أفريقي دون أن يتعرضوا للمحاسبة الجادة أو العقاب الرادع، ورفعت المظاهرات التي توجهت إلى كثير من أقسام ومراكز الشرطة في أغلب مدن أمريكا شعار (defund the police) وهو شعار لم يكن مألوفاً بالنسبة لي، وحين بحثت عن تفسير واضح له، وجدت تفسيرات مختلفة تتراوح بين الضغط على قادة الشرطة بوقف نسب مختلفة من تمويلهم الفيدرالي بشكل فوري إلى أن تتم مراجعة سياساتهم بشكل جذري، والتخلص من الضباط الذين يمارسون العنصرية بشكل منهجي ضد الأقليات وبالأخص الأمريكيين من أصل أفريقي، وتصل إلى تفكيك جهاز الشرطة نفسه لأنه يسيئ إلى المجتمع أكثر مما يحسن، والاعتماد بدلاً من ذلك على الجهود الشعبية لحماية أمن السكان والمنشآت.

إلا أن مؤيدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنتشرين في وسائل الإعلام المحافظة ومواقع التواصل الاجتماعي سرعان ما استخدموا ذلك الحديث لشن حملات مضادة تتهم كل المشاركين في المظاهرات برغبتهم في تدمير جهاز الشرطة وتشريد ضباطه بعد تسريحهم، وأنهم جزء من مؤامرة دولية تستهدف أمريكا

ومع أن الحديث عن ضرورة تفكيك جهاز الشرطة والتخلص منه، لم يكن الغالب على حديث المشاركين في مظاهرات (حياة السود مهمة) التي شهدت زخماً بعد مقتل جورج فلويد، إلا أن مؤيدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنتشرين في وسائل الإعلام المحافظة ومواقع التواصل الاجتماعي سرعان ما استخدموا ذلك الحديث لشن حملات مضادة تتهم كل المشاركين في المظاهرات برغبتهم في تدمير جهاز الشرطة وتشريد ضباطه بعد تسريحهم، وأنهم جزء من مؤامرة دولية تستهدف أمريكا التي لا يريدون لها أن تكون “great again” وسرعان ما التقط كثير من ضباط الشرطة الخيط، ورأوا في تلك الحملات فرصة لتخفيف الضغط الإعلامي والشعبي ضدهم، فبدأوا في تنظيم وقفات أمام مراكز الشرطة يستنكرون فيها دعوات تفكيك جهاز الشرطة ووقف تمويله، ويلوحون بالعصيان والتخلي عن أداء وظائفهم إذا لم يتحرك المجتمع للوقوف ضد تلك الدعوات التي تأخذ العاطل بالباطل، وتجعلهم هدفاً للمجرمين الراغبين في التخلص من جهاز الشرطة، مذكرين بالأحوال الأمنية المزرية التي كانت عليها نيويورك حتى منتصف التسعينات، وهو كلام سرعان ما وجد من يردده بحماس وتأثر، سواءً عبر الحسابات الشخصية لمواقع التواصل الاجتماعي، أو في التعليقات التي تكتب على المقالات والفيديوهات في كافة المواقع الإلكترونية، أو حتى في الأماكن العامة التي يلتقي فيها الناس خلال هروبهم من الحبس في المنزل، وهو ما بدا جلياً من كلام الأخ اللاتيني الغاضب والخائف على طفله.

بعد أن تركنا الحديقة بيومين أو ثلاثة، اتضح أن حادث الألعاب النارية الذي عكّر صفو نزهتنا لم يكن فردياً، حيث نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) تحقيقاً موسعاً عن ظاهرة انتشار الألعاب النارية في كافة أحياء نيويورك وانزعاج السكان منها، مع أنهم تقبلوها بارتياح في الأسابيع الأولى من الحجر لأنها ساهمت في تخفيف توترهم وخوفهم، وخلقت نوعاً من التواصل بين الجيران، لكنها تحولت إلى كابوس، حين أصبح اللعب بها مستمراً حتى مطلع الفجر، وأصبحت تستهدف البلكونات والنوافذ ثم المارة والجالسين في الحدائق، وبدأت تنتج عنها إصابات تساهم في ذهاب الناس إلى أقسام الطوارئ في فترة لم يكن التردد على المستشفيات خالياً من الخطورة، ولفت انتباهي أن الغالبية العظمى من التعليقات التي تفاعلت مع التقرير اتهمت ضباط الشرطة في نيويورك بالتواطؤ مع مستخدمي الألعاب النارية، بل وزعم عدد لا بأس به من المعلقين أن الألعاب النارية تنطلق من أقسام الشرطة أو من مناطق قريبة منها، وأن الهدف هو إثارة فزع سكان نيويورك لكي يتوقفوا عن ترديد الشعارات المناهضة للشرطة أو ينقلبوا على المتظاهرين الذين كانوا يلقون استقبالا شعبيا ممتازا خلال تجوالهم في شوارع نيويورك ووقفاتهم الأسبوعية أمام أقسام ومراكز الشرطة، وربط البعض بين تلك الهوجة النارية وبين التراخي في التعامل مع حوادث النهب والسلب التي استهدفت العديد من المتاجر والمحلات في الأيام الأولى من قيام المظاهرات.

لاحظت أن أغلب المعلقين لم يلتفتوا إلى ما أشار إليه التحقيق عن أن انتشار الألعاب النارية لا تقف وراءه مؤامرة حكومية، وإنما رغبة في الكسب السهل الناتج عن قيام عدد من مصنعي وموزعي الألعاب النارية الذين تتبعهم التحقيق بتخفيض أسعار منتجاتهم التي تعرضت للكساد بعد أن عمت إجراءات الحجر الكثير من المدن الكبرى وأدت إلى إلغاء أغلب الاحتفالات التي كانت تستخدم فيها الألعاب النارية، ولأن مصانع هؤلاء ومخازنهم كانت تقع في ولايات قريبة من نيويورك مثل ولاية بنسلفانيا، فقد بدأ بعض سكان مدينة نيويورك في السفر إلى تلك المصانع والمخازن وشراء الألعاب النارية والعودة إلى نيويورك لبيعها بسعر أغلى بكثير، وهو ما قاله للصحيفة عدد من أولئك الذين حققوا مكاسب لم يكونوا يحلمون بها بسبب تلك التجارة، وقد كان من بين هؤلاء رجال تجاوزوا الستين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل دون تلقي معونة حكومية، وشباب في الجامعة قرروا استثمار تعثرهم الدراسي في تحقيق مكاسب يمكن أن تساعدهم على دفع قروضهم الجامعية، لكن كل تلك التفاصيل غابت وسط تعالي الأصوات الغاضبة من تراخي الشرطة عن أداء دورها، وقيامها بلوي ذراع الناس الذين لا يرضيهم القتل العنصري وممارسة السلطة بغشومية دون رقيب أو حسيب.

بالطبع، لم تخل التعليقات من غاضبين آخرين انقضوا على الغاضبين من أداء الشرطة واتهموهم بالمقامرة بأمن سكان المدينة من أجل تنفيذ مؤامرة تستهدف أمن أمريكا، وترغب في إظهار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمظهر الضعيف في عامه الرئاسي الأخير، مطالبين ترامب بالتدخل السريع وإنزال قوات الحرس الوطني إلى شوارع نيويورك لكي تعتقل كل متظاهر يطالب بتفكيك البوليس ووقف تمويله، ولكي يحمي رجال الشرطة من المتظاهرين والمجرمين، وإذا كنت ستستغرب العبارة الأخيرة، فلك أن تعرف أنها لم تبق حبيسة جدران المواقع الإلكترونية والحسابات الشخصية، بل سرعان ما أصبحت تتردد على ألسنة بعض قادة الشرطة في ما يسجلونه من حوارات يتحدثون فيها عن إحساسهم بالخطر والاستهداف الشخصي الذي يهدد أمنهم، ثم أصبح الأمر رسمياً حين ردده دونالد ترامب وعدد من رجاله في حواراتهم وتصريحاتهم، وهو ما ساهم في اختلاف طريقة استقبال مظاهرات (حياة السود مهمة) في العديد من المدن، خصوصاً حين حدثت اشتباكات ومناوشات بين المتظاهرين الغاضبين من الشرطة، وتجمعات أخرى اتخذت لنفسها شعار (حياة ضباط الشرطة مهمة) أو اكتفت برفع شعار خبيث أو متخابث هو (حياة الجميع مهمة).

لم أكن من المعجبين بشعارات تفكيك ووقف تمويل الشرطة، وشعرت أن رفعها في ذلك التوقيت يمكن أن يثير رد فعل عكسي، سيؤثر سلباً على الزخم الجماهيري الذي حققته مظاهرة (حياة السود مهمة)، خاصة أن الوقائع المسجلة بالصوت والصورة لجريمة قتل جورج فلويد وعدد من الذين سبقوه من الضحايا في العديد من الولايات لم تترك للكثيرين أي مجال للتبرير أو التنظير، وأذكر أنني حين عبرت عن تحفظي على تلك الشعارات خلال قيامي بتصوير مظاهرة وقفت أمام قسم الشرطة الموجود أمام بيتي، واجهت معارضة حادة ليس فقط من زوجتي التي درست الكثير عن أوضاع الأقليات في مدينة نيويورك والعنصرية الممنهجة الموجهة ضدها، ولكن من ابنتي التي لم تكن قد بلغت وقتها الرابعة عشر من عمرها، لكنها كانت تعتبر كباقي أبناء جيلها أن حركة (حياة السود مهمة) تخصهم بشكل شخصي، وأن المطالبة بتفكيك البوليس ووقف تمويله هو أقل ما يمكن عمله للوقوف ضد عنصرية الشرطة وانفلات أداءها، ووسط حرارة النقاش باءت كل محاولات شرح موقفي الذي يتفق في رفض أداء الشرطة وينبه إلى أهمية ترشيد الغضب لكي يتبنى شعارات منضبطة لا تؤثر على زخم الحركة والتعاطف الشعبي معها، ولذلك اضطررت في النهاية لتكبير دماغي والانسحاب المنظم من النقاش.

...

نكمل غداً بإذن الله.

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.