فريد الأطرش صَوّيت ودقاق عود!!
كنتُ، وما زلتُ أُعطي لصديقي أبو سعيد الذي يتصل بي من إدلب، الحقَّ في اختيار الموضوع الذي سنتحدث فيه.
كان يريد أن نتحدث، خلال هذا الاتصال، عن صديقنا المشترك أبو عمر الذي حكينا عنه في الاتصال السابق.
قال: أبو عمر يعشق صوت الأستاذ محمد عبد الوهاب، وفنه النادر، ولذلك كان لا يخرج من داره دون أن يضع في جيبه كاسيتاً يتضمن باقة من أغانيه القديمة، تحسباً من موقف محتمل، كأن يكون جالساً مع بعض الناس في مجلس ما، ويقول أحدهم: ماذا تحبون أن تسمعوا؟ فيسارع هو، وقتئذ، إلى إخراج الكاسيت، ويقول متظاهراً بالبراءة: بالصدفة؛ نسيت هذا الشريط في جيبي البارحة، صدقني لا أعرف ماذا فيه. ضعه في المسجلة لنرى.. هذا مع أن أصدقاء أبو عمر، وأفراد شلته، يعرفون أن فيه مجموعة من أغاني عبد الوهاب القديمة.
ضحكت وقلت:
- هذه الحادثة أعادتني، يا أبو سعيد، إلى أكثر من نصف قرن من الزمان، حينما كنا في مرحلة "الأدباء الشباب".. فحينما كنا نلتقي، في مكان ما، ونقول لأحد الشعراء الموجودين بيننا: أسمعنا شيئاً من شعرك. كان يقول:
- أنا، في العادة، لا أحمل معي شيئاً من قصائدي..
ويمد يده إلى جيبه، يخرج منه ورقة مطوية، ويتابع:
- لكن هذه القصيدة موجودة في جيبي (بالصدفة)!
المهم؛ كان أفراد شلة "أبو عمر" يتآمرون عليه، بقصد إغاظته، فيضعون له شريطاً لمطرب آخر من المطربين المتميزين، مثل فريد الأطرش، فيسكت، ويستمع على مضض، وبعد دقائق يقول:
- الحقيقة أن الأستاذ فريد، الله يرحمه، صَوّيت، (أي: صاحب صوت جميل)، ودَقّيق عود (عازف عود) ممتاز، ولكن أيش رأيكم أن نُريحه قليلاً، فقد علمت أن لديه "مرض قلب"، والغناء لا يناسب صحته!!
وكانوا يؤيدونه بالرأي، أو يتظاهرون بذلك، ويبدلون الشريط بأغنية لفيروز، أو ميادة حناوي، فيعود إلى التململ.. وهم، في كل الأحوال، لا يجرؤون على وضع شريط لمطرب هابط، فهذا قد يؤدي إلى مغادرته السهرة ممسكاً برجله اليسرى.
- لم أفهم، ما علاقة رجله اليسرى بالموضوع؟
- قصة رجله اليسرى، يا أبو سعيد، سمعتُها من صديقنا المشترك المرحوم "أبو النور"، ملخصها أن أبو عمر لا يذهب إلى الأعراس مهما كلف الأمر، يسوغ ذلك بقوله إنه ذهب إلى عرس لابن أحد أصدقائه، منذ أكثر من عشرين سنة، وبعدها تاب توبة غير قابلة للنقض، لأنه رأى في العرس العجب، حيث ينقسم الحاضرون إلى مجموعات، تسمى الواحدة منها (بوطة)، وكل بوطة تقوم إلى الرقص بعد الأخرى، ويبدأ أفرادها باستعراض مهاراتهم لكي يلفتوا الأنظار أكثر من سابقيهم، وأحياناً يسمع أفرادُ إحدى (البُوَط) عبارة استفزازية من مجموعة مجاورة، فتحتدم مشاجرة قواُمها الضَرب بالكراسي، أو بالسلاح الأبيض، ويبدأ بقية الحاضرين بالهرب، فإذا حصل تَدَافُعٌ عند الباب، يصعد الخائفون المرعوبون إلى السطح، ويقفزون إلى الشارع، وإذا فرضنا أنه لم تعلق مشاجرة في العرس، يحدث أن يصيح المطرب موال (فردك ستندر يا أبو سلوم) فيخرطش أبو سلوم مسدسه ويطلق، وأثناء ذلك يشعر أبو عمر وكأن طلقات الفرد تمر بجوار أذنه..
وبسبب معرفة أصدقاء أبو عمر مدى نفوره من الأعراس، فإنهم يسعون، أحياناً، إلى أخذه إلى عرس أحدهم، ولكن بالحيلة.
وذات مرة، كانوا يسهرون في منزل أبو نعمان، ومشت السهرة كلها كما يشتهي، فقد أسمعوه كل محتويات الكاسيت الذي أحضره معه، وقدموا له كأساً من الشاي التي يحبها، وهي، برأيهم، كاس شاي سيئة جداً، خفيفة، وقليلة التسخين، ودون سكر، وقدموا له سيجارة أجنبية، وحينما بلغت الساعة العاشرة إلا ربعاً، استأذن، كعادته، للانصراف، فقال له أبو سومر: ما رأيك أن نترافق أنا وأنت؟ طريقي من طريقك..
قال: على رأسي.
وخرجا. وهنا بدأ تنفيذ الخطة التي اتفقوا عليها، فقد صحبه أبو سومر من زواريب متعرجة، وهو يبرر له ذلك بأن هذه الطرقات أقصر وأكثر أماناً في الليل، وهكذا حتى وصلا دار يقام فيها عرس، بمجرد ما رآهما أصحابُ العرس هرعوا نحوهما، وقابلوهما بالترحاب، وهكذا وجد أبو عمر نفسه، فجأة، داخل العرس، وأيقن، وقتئذ، أنه شرب المقلب، سيما وأن بقية أفراد الشلة الذين كانوا يسهرون معه، جاؤوا إلى المكان تباعاً، وجلسوا بجواره.
- صدقني، يا أبو مرداس، ما تحكيه ممتع. تفضل أكمل.
- يا سيدي، حينما أصبح أبو عمر ضمن معمعة العرس، لم يُبْدِ أيَّ تذمر، بل العكس، راح يشكر أصدقاءه الذين رتبوا له هذا الكمين، بعبارات تبدو لمن لا يعرفه جديّة، مع أنها في قمة التهكم، فيقول:
- أنا عاجز عن شكركم لأنكم أتيتم بي إلى هذا المكان الرائع، فأستمتع برؤية هؤلاء الرجال الشجعان وهم يرقصون، (ثم أشار بيده نحو المطرب ذي الصوت الجعرّ، وقال): وأكثر ما أسعدني هذا الطرب الأصيل. أتصدقون؟ لقد أمضيت القسم الأكبر من حياتي وأنا مُضَلَّل، تائه، متعلق بصوت مطرب قديم عفا عليه الزمن، قصدي محمد عبد الوهاب، اسمعوا بالله عليكم إلى هذا الصوت الحنون، أنا لو متُّ البارحة، لذهبتُ وفي قلبي حسرة أنني لم أتعرف عليه. (والتفت إلى أبو سومر) بشرني، بالله عليك، هل تُسَجَّلُ هذه الحفلة على كاسيت؟
- طبعاً.
- إذن، سأضع أمانة برقبتك، اذهب غداً إلى أهل العريس، واستأذنهم، وخذ الكاسيت إلى محل الأشرطة، وانسخ عليه عشرين نسخة على الأقل، على حسابي أنا، وأحضرها لي، ففي هذه الحالة أنا كلما أحببتُ أن أقدم لأحد من أحبتي هدية قيمة، أعطيه نسخة، وهو، بدوره، عندما يسمعها، ويستمتع بهذا الصوت الجميل، لا بد أن ينسخ الكاسيت، ويوزعه على أحبته، وفي غضون أيام تنتشر كاسيتات هذا المطرب الرائع، نسيت أن أسألك. ما اسمه؟
المهم، بعد وصلة التهكم هذه، وبينما كان المطرب يصيح موالاً، والرجال الرجال يدبكون، أمسك أبو عمر ساقه اليسرى وصاح: آخ. فسارع أصدقاؤه إلى إسعافه، وهم يعرفون أنه يمثل، وتقدم منه اثنان، وضعَ يداً على كل منهما، وخرجوا من العرس وهو يقول:
- ما أحقر الألم الذي يسببه لي "العِرق الأنسر". كأن سكاكين تنغرز في ساقي. وأسوأ شيء أنه حرمني من سماع خوار هذا المطرب، عفواً، قصدي غناءه!