فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (5)

10 أكتوبر 2021
+ الخط -

على عكس ما يعتقد الكثيرون، بدأ اهتمام سعيد صالح بالمسرح السياسي مبكراً، وبالتحديد في مسرحية "قصة الحي الغربي" التي بدأت فرقة الفنانين المتحدين بتقديمها في 13 أغسطس/آب 1972 وانتهى عرضها في فبراير/شباط 1973، وكان لسعيد صالح دور بارز في ذلك الإغلاق السريع الذي لم يكن يليق بنجوم المسرحية الذين تجاوب معهم الجمهور بقوة خلال العامين الماضيين في "مدرسة المشاغبين"، حيث قرر سعيد صالح أن يقوم في مشهد المحاكمة في المسرحية بتقليد الرئيس أنور السادات في خطبته الشهيرة التي ندد فيها بخصومه الذين كانت وسائل إعلامه تطلق عليهم لقب "مراكز القوى"، ولقي تقليد سعيد للسادات تجاوباً كاسحاً من الجمهور شجعه على التمادي في تقليد السادات، وكما يقول مخرج المسرحية جلال الشرقاوي في مذكراته: "توالت إنذارات الرقابة على المصنفات الفنية، ولم يرتدع سعيد صالح بينما كان سمير خفاجي ـ منتج المسرحية ـ يلطم خدوده، ولم تتوان الرقابة فسحبت ترخيص المسرحية، ولم تكتف السلطات بذلك بل صدر قرار إداري بإغلاق مسرح الحرية نفسه وتشميعه بالشمع الأحمر، وهكذا كانت نهاية قصة الحي الغربي بتوقيع سعيد صالح. بعدها فكرت فرقة المتحدين في إعادة عرض "مدرسة المشاغبين" بعد عدة أشهر من إغلاقها، وفعلاً تم عرضها اعتباراً من 10 فبراير/شباط 1973 وبنفس النجاح الجماهيري الذي حققته في مواسم عرضها السابقة".

كانت كواليس مسرحية "قصة الحي الغربي" قد شهدت توتراً متصاعداً بين نجمي الفرقة عادل إمام وسعيد صالح، بعد أن تمادى سعيد صالح في الارتجال وتكبير دوره على حساب عادل وباقي أبطال المسرحية، وبدأ عادل إمام يفكر في ترك الفرقة والتعاقد مع فرقة أخرى قبل أن يعود إليها ويبدأ سمير خفاجي في التفكير فيه كبطل مستقل بعد أن ينتهي عرض "مدرسة المشاغبين" عام 1974، ليبدأ الإعداد لمسرحية "شاهد ما شافش حاجة" التي سيلعب عادل بطولتها منفرداً، بينما يتم الاتفاق مع سعيد صالح على أن يكون جزءاً من مسرحية "كباريه" التي اقتبسها وحيد حامد عن مسرحية برودواي الشهيرة، وكانت نيللي ستلعب بطولتها مع سعيد وعبد المنعم إبراهيم وسناء جميل وحسن مصطفى وعبد الله فرغلي وعمر خورشيد، ولم يلتفت سعيد إلى تحذيرات بعض أصدقائه من صغر دوره، لأنه كان ينوي أن يقوم بتكبيره شيئاً فشيئاً كما حدث في "مدرسة المشاغبين" و"قصة الحي الغربي"، مراهناً على أنّ البعد عن السياسة هذه المرة سيؤدي إلى نجاح التجربة كما حدثت في "المشاغبين" ودون أن يصطدم بالرقابة لأسباب سياسية كما حدث في "قصة الحي الغربي".

لكن اللعبة التي بدت مضمونة النجاح لم تنجح، بل جاءت بأثر عكسي بعد أن ركزت الصحافة هجومها على العرض بسبب ما وصفته بخروج سعيد صالح المبتذل على النص، ففي مجلة الإذاعة والتلفزيون مثلاً كتب الناقد عبد المنعم صبحي في مقال نشر بتاريخ 17 أغسطس/آب 1974: "إنّ الكثير من مواقف الكباريه تعتمد على الإثارة الرخيصة الممجوجة، بعض الأغنيات التي ترددها نيللي في الكباريه تقول: الليلة دي اللية دي حضني مفتوح للجميع، ثم بعض القفشات الممجوجة التي تطرح في الكباريه على لسان سعيد صالح والتي تهبط بمستوى المشاهدين إلى أسفل درك. في بعض المشاهد يقول سعيد صالح معتمداً على القفشات الرخيصة: آكل بابا غنوج، بابا غنوج إزاي، أمال ماما بتعمل إيه؟ ويقول: كستليته، ده عيب، عيب خالص الكلمة دي"، أما الناقد جلال العشري فقد كتب بعدها بأسبوع قائلاً: "وعلى الرغم من هامشية دور سعيد صالح إلا أنه أكسبه أهمية من عنده ولكنها الأهمية التي جاءت على حساب دوره وعلى حساب العرض كله، فإذا تغاضينا عن الإضافات الشتائمية الكثيرة التي أدخلها طوال العرض والتي أدت إلى الإطالة والإملال وبطء الإيقاع فلا يمكن التغاضي عن مشهد الشمبانيا الذي قام بتأليفه فورياً على المسرح والذي استغرق أكثر من نصف ساعة دون أن يزيد على كونه مجموعة من القفشات اللفظية والحركية الساذجة حول هذه الكلمة كاسراً بذلك طبيعة دوره رغم إيقاف الحركة المسرحية في العرض كله، هذا فضلا عن إعادة تكرار الحركات الكوميدية الرئيسية في دوره الشهير في مسرحية هاللو شلبي".

ينقل جلال الشرقاوي هذه الآراء النقدية في مذكراته دون أن يعترض عليها، مثلما اعترض على آراء مشابهة كتبت عن "مدرسة المشاغبين"، ويعترف بأنّه أخطأ حين انشغل بإخراج مسرحية أخرى خلال عرض "كباريه"، لكنه يقول إنه قرر في الموسم الشتوي أن يذهب إليها ليرى ما الذي استفز ناقديها إلى هذا الحد ويصف تجربته كالآتي: "ذهبت إلى هناك في إحدى ليالي العرض وجلست في الصالة دون أن يحس بي أحد وفوجئت بكل هذه النكات والقفشات الهابطة التي يذكرها سعيد صالح في دوره على خشبة المسرح. في نهاية الجزء الأول من المسرحية لاحظت أنّ بعض الأسر الموجودة قد غادرت صالة المسرح، تابعتها بناظري فإذا بها تخرج من الباب الخارجي إلى الشارع مباشرة. صعدت إلى حجرة سعيد بكواليس المسرح ثائراً، وأنّبته في غضب على هذا الهبوط المبتذل، وناديت على سمير خفاجي الذي أتى على صوت صراخي مستفهما، والحق أن الرجل لم ينبس ببنت شفة وإنما وضع اصبعه بين أسنانه كما يفعل دائماً في لحظات الحيرة أو القلق وأخذ يتجول بنظراته بيني وبين سعيد، أنا في هجومي على سعيد وسعيد في رده علي، وقد أنهى رده علي بأن قال: "انت فاكر إن إخراجك هو اللي نجّح المسرحية دي، دول الشوية بتوعي همه اللي نجحوا الرواية"، وقفت الكلمات في فمي كأنما أصبت بسهم، نظرت إلى سمير خفاجي مستنجداً، ولكن الرجل آثر الصمت الجميل، استحثثته على الإجابة: "انت موافق على الكلام اللي بيقوله سعيد صالح؟"، خرج المنتج الكبير عن صمته وأخرج اصبعه من بين أسنانه وقال: "ما هو انت برضه يا جلال محبّكها شويتين".

كان ذلك الموقف سبباً في قطع جلال الشرقاوي علاقته بفرقة الفنانين المتحدين، ليتم استبعاده من إخراج مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" ويتم إسناد المهمة إلى المخرج الصاعد وقتها هاني مطاوع، ويستمر سعيد صالح في "الشويتين بتوعه" التي لم تنجح في إنقاذ مسرحية "كباريه" التي منيت بفشل ذريع لا يتناسب مع طاقمها الكبير، وبدأت الصحافة تلعب على أعصاب سعيد صالح بالحديث عن تدهور قدراته الكوميدية، خصوصاً حين حققت مسرحية صديقه عادل إمام "شاهد ما شافش حاجة" التي بدأ عرضها عام 1975 نجاحاً فنياً وجماهيرياً منقطع النظير، وتحولت إلى ظاهرة مسرحية بشكل حفز سعيد صالح لعمل تغيير في مشواره، فوافق على اقتراح سمير خفاجي بعمل مسرحية جديدة تضمه مع يونس شلبي وحسن مصطفى وأحمد زكي وكريمة مختار، على أن تأخذ المسرحية الجديدة وقتها في الكتابة، وبعد أن اعتذر علي سالم مؤلف "مدرسة المشاغبين" عن الاشتراك مع سمير خفاجي في كتابة المسرحية المقتبسة عن نص أجنبي، استعان سمير بشريك نجاحاته السابقة بهجت قمر، وبدءا كتابة المسرحية التي يقول سعيد صالح إنها "كانت أقل مسرحية ليا حصل فيها تجويد لأن بهجت قمر كان عامل فيها شغل جميل".

أخذت المسرحية وقتها في الكتابة والبروفات التي أبدع فيها سمير العصفوري، وحين بدأ عرضها في مسرح كوتة بالإسكندرية في صيف 1977 حققت نجاحاً ساحقاً استمر حتى نهاية عرضها في عام 1980، حين قرر سمير خفاجي أن يعيد تقديم مسرحية "مدرسة المشاغبين" بعد موافقة جميع نجومها ما عدا أحمد زكي الذي تم استبداله بمحمود الجندي، ولم يجد الصديقان اللدودان عادل وسعيد مشكلة في التعاون بشكل استثنائي على خشبة المسرح إلى أن ينتهيا من التفكير في مسرحيات جديدة، لكنهما رفضا عروض سمير خفاجي بالعودة للعمل معاً في نص جديد، فيعود بعدها عادل إمام لتقديم "شاهد ما شافش حاجة" إلى أن تنتهي كتابة مسرحيته الجديدة "الواد سيد الشغال"، وبعد أن قرر يونس شلبي أن يقوم بتقديم بطولات مستقلة، قرر سعيد صالح أن يقدم مسرحيته الأولى بطلاً منفرداً مع النجمة مديحة كامل، ليختار نص "لعبة اسمها الفلوس" من تأليف الكاتب الشاب ناجي جورج وإخراج سمير العصفوري، ليمارس من جديد لعبة الارتجال والخروج على النص التي لم يكن ثمنها هذه المرة إغلاق المسرحية فقط، بل دخول سعيد صالح إلى السجن كأول ممثل يتعرض لهذه العقوبة في تاريخ المسرح المصري، وإن كان السبب الحقيقي لدخوله السجن بعيداً كل البعد عن "الخروج على النص وإهانة رئيس الجمهورية الجديد حسني مبارك" بعكس ما يعتقد الكثيرون.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.