"فرانكشتاين في بغداد" والحمدانية
اقترحت مجموعة قرائية مناقشة رواية "فرانكشتاين في بغداد" للكاتب العراقي أحمد سعداوي، وطُلّب من كاتب هذه السطور أن يقدّم القراءة النقدية، وقد خُطّط لذلك قبل شهر أو يزيد، ولم يكن في الحسبان أن تُعقد الجلسة بعد ساعات من زفاف الحمدانيّة، الزفاف الذي تحوّل إلى كارثة، كأنّ العراق بتاريخه وإباء أبنائه، استأثر بقول ابن حِنزابة "إن الرّياح إذا اشتدت عواصفها/ فليس ترمي سوى العالي من الشجر"، وفي رواية أخرى "فما تضرّ سوى العالي من الشجر"، أو لكأنّه "خراش" تكاثرت عليه النكبات والملمات (لا الظباء)، فما يدري "خراش" ما يصيد!
نهض "فرانكشتاين" من أشلاء الضحايا ليعيد الأمور إلى نصابها، أصرّ على أن يعيد لجعفر محمد حسيب حقه، أن يحقق العدالة الناجزة لدانيال تيداروس من أبي زيدون، أخذت الأمور منحى غير متوّقع، على طريقة بيرني مادوف "لم تبدأ الأمور بنوايا سيئة"، مع ذلك، جاءت العواقب وخيمة على الجميع، آلة القتل لم ترحم ولم تفرّق بين بريء ومذنب، الكلّ تحت طائلة العنف والدمار والخراب، والطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيّبة!
نحن نختلف عن الآخرين تمامًا، حتى في فرانكشتاين نختلف، قدّمت الإنكليزية ماري شيلي، عام 1818، الشاب فيكتور فرانكشتاين باحثًا عالي الهمّة، محبًّا للعلوم، قاده شغفه إلى طرق أبواب المجهول، تمكّن من تجميع مسخ ما، مسخ بشع الملامح مخيف، لم يرحّب به الصّغار ولا الكبار، فاختار لنفسه أن يبقى منزويًا بعيدًا عنهم، طلب من صانعه شيئًا واحدًا، ألا يتركه في مقاساة الحياة وحيدًا، أن يصنع له أنثى تشاركه أتراحه وأفراحه، سيأخذها ويختفي عن الأنظار.
تردّد فرانكشتاين في تلبية رغبة المسخ، عندها (وعندها فقط) قرّر المسخ إيلام أبيه الرمزي، فقتل أخاه الأصغر، قتل صديقه هنري، قتل عروسه إليزابيث، حوّل حياته إلى جحيم، انبرى "فرانكشتاين" في طلب المسخ ليثأر لأهله، لكنه مات في القطب الشمالي قبيل إنجاز مهمته، ندم المسخ على موت صانعه، ثم اختفى بين الأمواج العاتية. أرادت ماري شيلي أن تلفت انتباه الإنسان إلى قضايا العلم وتأثير شطحات الإنسان على الواقع والمستقبل، فهندست روايتها في 19 فصلًا، حملت الرواية طابعًا بوليسيًا بجانب الخيال العلمي، وما يعرف الآن بالواقعية السحرية أو السرد العجائبي.
في المقابل، استورد أحمد سعداوي مسخ ماري شيلي، خلع عليه صبغة عراقية خاصة، فالمسخ له أكثر من اسم؛ الشسمه (الذي لا أعرف له اسمًا)، إكس، فرانكشتاين، المخلّص... كلّ رآه وفق هواه، تكاثرت التفاسير المذهبية والطائفية لهذا المجهول الهُوية، هواجس تقاسمتها شخصيات الرواية التي تزيد عن 50 شخصية؛ ففي حي الصدر (شيعة) قالوا إنه وهّابي، في الأعظميّة (سنّة) قالوا إنه متطرف شيعي، قالت الحكومة العراقية إنه عميل لقوى أجنبية، بينما ارتأى الغزاة الأميركيون أنه يهدّد المشروع الأميركي في العراق، كلّ على ليلاه غنّى.
"فرانكشتاين في بغداد" عرض مغرق في الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني لعراق ما بعد الغزو الأميركي
والحال هذه، لم يقنع مسخ بغداد بالعيش بعيدًا عن النّاس، قرّر أن يكون بينهم ليثأر أولًا للأبرياء، قبل أن تختلط الأعضاء والأجزاء المكوّنة له، فلم يدر الضحيّة من الجلاد، فركب متن عشواء، يقتل للقتل، وبدلًا من أن ينجز مهمته ويختفي، استمرأ اللعبة فقرّر أن يجدّد ما يتهاوى من أجزائه بأي حال، لتظلّ الأمور على ما هي عليه، محلّك سر!.
بالمثل جزّأ سعداوي روايته إلى 19 فصلًا، امتازت عن النسخة الإنجليزية بأنّها ليست خيالًا علميًا، إنما عرض مغرق في الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني لعراق ما بعد الغزو الأميركي.
في الروايتين تضفير سردي بين الواقع والغرائبي أو العجائبي، لم يغب الطابع البوليسي عن العملين، تبدّى في دائرة التعقيب والمتابعة (الاستخبارات) بقيادة العميد مجيد سرور، والسعي الحثيث لضبط هذا المجهول، أملًا في إثبات الولاء للقيادة الجديدة، للتخلّص من نظرة ارتياب تلاحقه جرّاء إخلاصه لحزب البعث، مع الآمال العريضة في اقتناص منصب أرفع، لم يكن الصالح العام ضمن قائمة الأولويات، المصلحة (ولو على أنقاض البلاد) ديدن بعض الخلق. الأزمات غير العادية تتطلّب حلولًا غير تقليدية، من هذا المنطلق، لاذت دائرة الاستخبارات بالمشعوذين والدجالين، وتضاربت الرؤى واختلطت الأوراق.
هل يمثل فرانكشتاين ماري شيلي التمرّد على الوضع القائم؟ السؤال نفسه ينسحب على الشسمه؟ ولأنها شخصية عجائبية، فإنّ هذا يحيلنا بدرجة ما إلى بروميثيوس (سارق النار، صديق الإنسان)، فإنّه تمرّد على سلطان الآلهة وانحاز لهذا المخلوق الضعيف. أوجد فيكتور فرانكشتاين المسخ عبر تجارب معمليّة، جمّع هادي العتّاك (من أشلاء جثث التفجيرات) الشسمه، هذه العلاقة بين الأب الرمزي أو الصانع وصنيعته تحيل في طرف منها إلى بيجماليون، ألم يطلب بيجماليون من الآلهة أن تمنح الحياة إلى "غالاتيا"، التمثال الذي هام بيجماليون بعشقه؟.
لاذت دائرة الاستخبارات بالمشعوذين والدجالين، وتضاربت الرؤى واختلطت الأوراق
في النسخة العراقية تظهر أم دانيال، إيليشوا الآشورية، الأم الرمزية لهذا المسخ، خلعت عليه اسم ابنها دانيال، الشاب الذي ساقه أبو زيدون إلى أتون الحرب العراقية الإيرانية، ما زالت تنتظر عودته ولا تصدّق أنه مات أو قتل، لم يُبد المسخ الإنجليزي أيّة عواطف تجاه أحد قبل وفاة صانعه، في حين تعاطف "الشسمه" مع أم دانيال فقتل أبا زيدون، كان أبو زيدون من أوائل ضحاياه. لماذا إيليشوا؟ هل اختار سعداوي أن يسلّط الضوء على معاناة الأقليّات؟ في السياق ذاته، لماذا اختار حي البتاوين فضاءً واقعيًا رئيسًا لروايته؟ هل لذلك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما فعله نوري السعيد في خمسينيات القرن الماضي بهذا الحي؟
حُقّ للصحافية الألمانية ألا تتعاطف مع رواية هادي العتّاك، لم تصدّق أنه يحكي أمرًا واقعيًّا ويصف ما أنجزه بيديه، تابعت حديثه في مقهى عزيز المصري بابتسامة مرتابة، قالت لاحقًا لمحمود السوادي (الصحافي الذي له ماضٍ يلاحقه)، إنّ العتّاك يحكي لنا قصة فيلم روبرت دينيرو. ستمر الأيّام قبل أن يدرك الجميع أنّ العتّاك كان صادقًا في كثيرٍ مما قال، لكن هيئته القذرة ورائحة الخمر التي لا تفارقه جعلتاه موضع شك واتهام، ويطالعنا سؤال: ماذا قصد المؤلف بهذه التفصيلة؟ هل أراد الإشارة إلى أنّ عراق ما بعد إبريل/ نيسان 2003 غاب عن الدنيا؟ أو أنّ الإنسان العراقي آثر أن ينفصل عن الواقع؟ لا سيّما مع تكالب الهموم والمحن عليه، لعلّ بعض القرّاء يذهب إلى أنّ سعداوي رسم ملامح شخصية هادي العتّاك على نحو أقرب ما يكون إلى ديوجين الفيلسوف اليوناني الشهير، مؤسّس النزعة الكلبية.
الواقع العراقي الأليم يتبدّى في خلفية الأحداث، من الحرب العراقية الإيرانية، إلى حادث حلبجة، ثم حرب الخليج الأولى ومن بعده غزو العراق، ليغزل أحمد سعداوي نسيج "الشسمه"، ظهر في شتاء 2005، وأعلن العميد مجيد سرور القبض عليه في 7 فبراير/ شباط 2007، بالأحرى قبض على أبيه الرمزي هادي حساني عيداروس، الشهير بهادي العتّاك، بينما عاد "الشسمه" في 27 سبتمبر/ أيلول 2023 ليختطف أرواح 100 شخص في غضون دقائق.
فإن قال قائل "ركّزت الرواية على الماضي وأهملت الاستشراف إلا لمامًا"، ففي حادث الحمدانية ما يغنيك عن التفاصيل، ونرجئ الحديث عن البنية السردية والمستويات اللغوية وتعدّد الأصوات في الرواية إلى مقال آخر.