فألقت عصاها واستقر بها النوى (1)

07 ديسمبر 2020
+ الخط -

قال أبو زكريا الفرّاء الكوفي إن أول لحنٍ سُمع بالعراق (هذه عصاتي)، يعني بالتاء، وانشقت العصا بين القوم أي وقع الخلاف، ومنه قول الشاعر "إذا كانت الهيجاءُ وانشقّت العصا/ فحَسْبُك والضّحّاكَ سيفٌ مهنّد". وفي المثل "العصا من العُصيّة" أي بعض الأمر من بعض، وقيل إن العصا (بفتح العين والصاد) خِمار المرأة، مأخوذ من عصوتُ الجرح عَصْوًا أي شددته، والعصا الخمار للمرأة تشده على رأسها.

وتقول كتب اللغة إن "ألقى عصاه" تعبيرٌ عن بلوغ المنزل، ومنه البيت المعروف "فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى/ كما قرّ عينًا بالإيّابِ المسافر".

واختلفوا في صاحب البيت؛ فقالوا البيت لمعقّر بن حمار البارقي، يصف امرأة كانت لا تستقر على زوج، كلما تزوجت رجلًا لم ترضَّ به ولم تأنس به؛ فاستبدلت به غيره، إلى أن تزوجت رجلًا أرضاها.

وقيل إن البيت قيل في امرأة كلما تزوجها رجلٌ لم تواتِه، ولم تكشف عن رأسها ولم تلقِ خمارها، وكان ذلك علامة إبائها وأنها لا تريد الزوج، ثم تزوّجها رجل فرضيت به وألقت خمارها وكشفت قناعها. 

ونسِب البيت كذلك إلى عبد ربه السلمي، وكذلك إلى سليم بن ثمامة الحنفي، والبيت في الأغاني، والعقد الفريد، والصّحاح، وتاج العروس، وطبقات ابن سعد، وأنساب الأشراف، وتاريخ الطبري، ومقاتل الطالبيين لأبي نُعيم، والكامل في التاريخ، ولسان العرب ومصادر جمة.

وأنشده الجوهري في الصّحاح، ذاكرًا أن قولهم "ألقى عصاه" أي أقام وترك الأسفار، وكذلك أنشده في التاج، وفي كليهما جاء الصدر "فألقت عصاها واستقرّت بها النوى"، ولم ينسبه لقائله فيهما، وقبل هذا البيت "وحدّثها الرُّوّاد أن ليس بينها/ وبين قرى نجْرانَ والشّام كافرُ"، بينما نسبه ابن بري لعبد ربه السّلمي، وقيل لسليم بن ثمامة الحنفي، وذكر الآمدي أنه لمعفِّر بن حمار البارقي.

ولهذا البيت في كتب الأدب والبلاغة رصيدٌ كبير من القصص والتمثلات والاستشهادات به، نطوف في رحابها ونفيد من تنوعها.

ففي عهد الأمويين، كان مما قاله يزيد بن عبد الملك ما تقر عيني بما وليت من أمر الدنيا حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن زهير الزهري وحبابة جارية لاحق؛ فأرسل فاشتُريتا له فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قيل "فألقت عصاها واستقرّ بها النوى".

وفي "عيون الأخبار"، ينسبه ابن قتيبة الدينوري إلى قتيبة بن مسلم وهو على منبر خرسان، وذكر الدينوري البيت ولم ينسبه، إذ سقط القضيب من يد قتيبة وهو على المنبر؛ فتفاءل له عدوه بالشر، واغتمّ صديقه، فعرف ذلك قتيبة فأخذه وقال: ليس الأمر على ما ظن العدو وخاف الصديق، ولكنه كما قال الشاعر "فألقت عصاها واستقر بها النّوى".

وفي "تاريخ دمشق" -لابن عساكر- أن إبراهيم بن هشام كان يخطب على المنبر بالمدينة؛ فسقطت عصا كانت معه في يده، فاشتد ذلك عليه وكرهه؛ فتناولها الفضل بن سليمان وكان على حرسه وناوله إياها، وقال البيت "فألقت عصاها".

وفي دولة العباسيين، لمَّا خرج أبو جعفر المنصور لقتال أبي يزيد الخارجي، سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء فمسحه وقال (فألقت عصاها..)؛ فقال المنصور: لم ما قلت "فألقى موسى عصاه"؟ قال: يا أمير المؤمنين! العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين، وتكلّم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين. (في ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي).

وتمثّل المنصور بالبيت ذاته لما جاءته رأس إبراهيم بن عبد الله، كما ينقل لنا الدميري في "حياة الحيوان الكبرى"، قصة ثالثةً لأبي جعفر المنصور مع هذا البيت، وذلك أن أبا عبد الله السفَّاح كان يحب أبا مسلم الخرساني، بينما لم ترق للمنصور تصرفات الخرساني، والتي زادت عن حدها، حتى سأل المنصور مسلم بن قتيبة يومًا: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! "لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا"؛ فقال: حسبُك يا ابن قتيبة؛ لقد أودعتها أذنًا واعية.

تربّص المنصور بالخرساني، حتى ظفر به وأخمد غضبة أصحابه بعدما نثر الدراهم والدنانير عليهم فسكنوا، ورمى برأسه إليهم، ودخل جعفر بن حنظلة عليه فرأى أبا مسلم في البساط فقال: يا أمير المؤمنين! عُدّ هذا اليوم أول خلافتك؛ فأنشد المنصور متمثلًا: (فألقت عصاها..).

وفي عهد الفاطميين، قال أبو جعفر أحمد بن محمد المرورذي كنت مع المنصور بنصر الله الفاطمي في اليوم الذي أظهره الله بمخلد بن كيداد أبي يزيد وهزمه؛ فتقدمت إليه وسلمت عليه وقبّلت يده.

وقد تقلد سيف جده ذا الفقار، وأخذ بيده رمحين فحدثته ساعة، فجال به الفرس، ورد أحدهما إلى يده اليسرى؛ فسقط أحد الرمحين من يده إلى الأرض، فتفاءلت له بالظفر، ونزلت مسرعًا؛ فرفعت الرمح من الأرض ومسحته بكمي، فرفعته إليه وقبلت يده وقلت (فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى/ كم قرّ عينًا بالإيّاب المسافر).

فأخذه من يدي وقال: هلا قلت ما هو خير من هذا وأصدق؟ قلت: وما هو؟ قال: قوله تعالى "وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاكَ فإذا هي تلقفُ ما يأفِكون؛ فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون، فغلِبوا هنالك وانقلبوا صاغرين".

وفي حسن التخلص ما ينقله ابن كثير في الجزء 11 من "البداية والنهاية"، روايةً عن ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان أمر الحجاج بن يوسف الثقفي أن يبني بابًا ببيت المقدس ويكتب عليه اسمه؛ فبنى له بابًا ولنفسه بابًا، فوقعت صاعقةٌ على باب عبد الملك فأحرقته، فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك.

وأجاب الحجاج: ما أنا وأنت إلا كما قال الله تعالى "واتل عليهم نبأ ابني آدم إذ قرّبا قربانًا فتُقُبِّل من أحدهما، ولم يُتقبّل من الآخر، قال لأقتلنّك"؛ فرضي عنه الخليفة بذلك.

وثمة قصص أخرى في حسن التعلل والتخلص والتماس العذر تدور جميعها في فلك هذا البيت، نورد طرفًا -قريبًا- منها في الجزء الثاني.