غوار الطوشة أحسن من حسني البورظان
سمر رمضاني (2)
اتصل بي أبو سعيد بعد انتهاء فترة الإفطار. كان يضحك؛ ساخراً من بعض الناس الذين يجلسون في انتظار حلقة جديدة من أحد المسلسلات التلفزيونية، وقال إن عقول هؤلاء فيها خلل واضح، لذلك تراهم يتسمرون أمام شاشة التلفزيون في الوقت المحدد لبث الحلقة، وإذا اتصل بهم أحد يريد أن يزورهم، يعطونه موعداً بعد انتهاء بث الحلقة، بينما هو، أبو سعيد، لا يرتبط بمتابعة أي مسلسل في موعد بثه، لأن "اليوتيوب" ينشر المسلسلات الرائجة كلها، وهذا يعني أنك تتابع ما تشاء، في الوقت الذي أنت تحدده، ويمكنك، كذلك، تأجيل الفرجة إلى ما بعد رمضان، حتى إنك غير مضطر للفرجة على مسلسل ما، إذا لم يشهد لك بضعةُ متابعين ذواقين، أذكياء، بأنه يستحق المشاهدة. فما رأيك؟
قلت: أميل إلى الاعتقاد بأن العقل الموجود في طاسة رأس كل إنسان يناسب عمره، وظروفه، ويتناغم مع الاختراعات الموجودة حوله.
توقف أبو سعيد عن الكلام برهة، ثم قال:
- ليس من عادتك، يا أبو مرداس، أن تتحدث بلغة عمومية تحتاج إلى تفسير.
- الحق معك، وأنا، في الواقع، عندما ألتقي بشخص يتحدث بهذه اللغة العمومية أُعرض عنه، وأفقد التركيز على كلامه. ولكنني، مع ذلك، أصر على العبارة التي قلتُها لك، قبل قليل، ومستعد أن أشرحها لك، ولمتابعي مدونتي في "العربي الجديد" حالاً.
- تفضل.
- الولد، في سن خمس سنوات، يا أخي أبو سعيد، يمتلك عقلاً يناسب عمر ولد في الخامسة، يفكر في الخرجية، وحل الوظيفة المدرسية، وفي بعض الألعاب التي تناسب عمره، وقديماً، كان هذا الولد يشتري، في رمضان، لعبة المتاهة، ويجلس عليها ساعات طويلة، وهو يحاول الوصول إلى المخرج، يفعل هذا لكي يزجي وقت الصيام، وغالباً ما كان يهملها بعد رمضان.. والولد، غالباً، لا يصوم كالكبار، بل يتحدث عن شيء اسمه صيام "درجات المئذنة"، بمعنى أنه يشرب ماء، ويأكل بضع لقيمات، كلما مضت أربع ساعات، مثلاً. وإذا تتبعنا هذه الفكرة، نجد أن عقول أهالينا، قبل دخول التلفزيون في حياتهم، كانت مختلفة عن عقولهم اليوم، فقد كان الواحد منهم يفكر في الاستماع للراديو، فقط، أي أنه كان متكيفاً مع الاختراع السمعي الوحيد الذي كان سائداً في تلك الأيام، ولأنه لم يكن يرى الممثلين، في تمثيليات حكمت محسن الإذاعية، مثلاً، تراه يتخيل أشكالهم، ويحاول رسمها في عقله، وغالباً ما يتخيلهم شبيهين بأشخاص يعرفهم في محيطه.. ومن الطبيعي أنه لا يعرف أن "أم كامل" ليست امرأة، بل رجل يدعى أنور البابا.. وعندما اخترعوا التلفزيون، وبدأت الكوميديا السورية التي ابتدعها نهاد قلعي ودريد لحام تُعرض على الشاشة، رأى ذلك الإنسان نفسه شخصيةَ "أبو فهمي"، وعرف أن أم كامل رجل يتقمص شخصية امرأة، وصار ينتظر عرض مسلسل مقالب غوار، أو حمام الهنا، أو مقهى الانشراح، بفارغ الصبر، وأنا، شخصياً، كنت آتي من دارنا في الحارة الجنوبية التي أطلق عليها أهلُ بلدتنا اسم "حارة المسعدات"، إلى مقهى محمد قدور بيطار في وسط البلدة، مبكراً، لكي أحجز لنفسي كرسياً في الصفوف الأولى، القريبة من جهاز التلفزيون، فإذا وصلتُ متأخراً، كنت أرى بأم عيني كيف تكون الشوارع والأزقة خالية من البشر خلال ساعة عرض الحلقة. وجرياً على عادة أهل بلدنا في نحت عبارات غريبة لكل عادة، أو ظاهرة، فقد أصبحت العبارة الدارجة، يومئذ: رايحين نتفرج عَ غوار.
- سؤال على الهامش، أبو مرداس، لماذا سُميت الحارة الجنوبية في معرة مصرين "حارة المسعدات"؟
- السمة العامة للنساء في بلادنا هي التعاسة، والشقاء، وتحمل الظروف المعاشية الصعبة، ولذلك، عندما كانت المرأة تحظى برجل ثري، يُسكنها في منزل واسع، ومفروش بشكل جيد، وتكون نسبة الدسم في طعام أسرتها جيدة، يقال: إنها امرأة "مسعدة"، أي ذات سَعْد، وفي ستينات القرن العشرين، نشطت حركةُ بناء فيلات حديثة في جنوب بلدة معرة مصرين، على طريق إدلب، وصارت نسوة البلدة ينظرن إلى النساء اللواتي ابتسم لهن السعد، وسكنَّ في تلك الحارة، بنوع من الحسد، وأطلقن على الحارة اسم حارة المسعدات! وبالمناسبة، كانت أسعار المنازل في الحارة نفسها، تتباين، فالمنزل الواقع غرب الطريق ثمنه أعلى من المنزل الواقع شرق الطريق، ففي الغرب تكون السعادة أكبر.
- يا سلام. لنعد إذن إلى مسلسلات غوار.
- شخصية غوار برزت في المسلسل أكثر من شخصية حسني البورظان، مع أن نهاد قلعي الذي يلعب دور حسني، هو الذي كان يؤلف هذه الأعمال، والسبب، كما أظن أن شعبنا يتعاطف مع الشخص الخبيث أكثر من الشخص المغفل الذي يمكن الاحتيال عليه بسهولة. وهنا لا بد لي من وقفة قصيرة لمناقشة فكرة يجري تداولها بكثرة، على وسائل التواصل الاجتماعي، الآن، ملخصها أن دريد لحام ممثل تافه، لولا نهاد قلعي ومحمد الماغوط، لما كان له وجود، أو ذكر، أو أهمية.
- أنا ألاحظ هذا، وعندي شعور أن كلامهم غير صحيح.
- نعم. كلامهم ليس صحيحاً، بل إن فيه نوعاً من التحامُل عليه، بسبب مواقفه المؤيدة لنظام الأسد، بمعنى أنه تحامُلٌ فني ينطلق من أرضية سياسية. وإذا كنت تريد رأيي، وبتجرد، أقول إن دريد لحام ذو حضور قوي أمام الكاميرا، مجتهد، ويشتغل في تقديم الدور الموكل إليه بشكل متميز، ولو كان كلامهم صحيحاً لكانت تجربته توقفت بعد رحيل نهاد قلعي، أو مقاطعة الماغوط له، ولكنه، كما رأينا جميعاً، قدم كاراكترات فنية متميزة، في أوقات لاحقة، كما في شخصية إبراهيم بيك في مسلسل (الدغري)، الذي كتبه رفيق الصبان اقتباساً عن رواية لعزيز نيسين، وأخرجه هيثم حقي، وشخصية "أبو الهنا" التي رسمها الراحل حكم البابا، وشخصية بو نمر بوقعقور في مسلسل الخربة للكاتب المتألق ممدوح حمادة، والمخرج الليث حجو. بجملة واحدة، أقول لك إنه أقوى فنياً من المرحوم نهاد قلعي، الذي بقي طوال حياته أسير شخصية حسني البورظان.