غزل إنساني بين الماعز والدجاج

19 اغسطس 2019
+ الخط -
يتمنى الأستاذ كمال لو أنه يمتلك نسبة ولو صغيرةً من الحس الفكاهي الذي يمتلكه أبو الجود. وقال إن الحكايات التي حكاها أبو الجود عن محافظ إدلب طريفة، وفريدة، وإنه سيستأذنه ويكتب هذه الحكايات في يوم من الأيام.

قال أبو الجود: إنته بتكتبْ القصصْ، وبتنشرها، وبتقبض عليها مصاري من الجريدة وبتخبيهم في البنك، ولما بتشوفني بتقلي شكراً يا أبو الجود. وأنا باخد الشكر تبعك وبروح لعند اللحام، بشتري كيلو لحمة مفرومة، وبعطيه "الشكر" وهوي بيرجع لي البقية، وأنا باخد البقية وبشتري الغراض اللي وصتني عليها أم الجود، بستمر بالصرف لحتى خَلِّصْ كل الشكر.

قل أبو زاهر منسجماً مع جو الدعابة: لأيش البعزقة؟ أنا برأيي تشتري حصالة، وكلما تشكرك الأستاذ كمال بتخبي "الشكر" في الحصالة لغدرات الزمان.


قال أبو جهاد: والله الشكر كتير عليك. لسه بدك الأستاذ كمال يعطيك مصاري؟ ما بيكفي قاعد بخلقتنا بتاكل وبتشرب وبتطلع من دون ما حتى تتشكرنا؟

قال كمال: أنا مستعد أعطيه لأخوي أبو الجود كل المصاري اللي بقبضها من الجريدة، وفوق الصماري بتشكره. بس لو تسمحوا لي أعمل شَرْح للفكرة تبعي حول إنه أبو الجود بيمتلك حس فكاهة عالي. بدي قول إنه أبو الجود بارعْ في وصف البيئة الشعبية، وعنده مقدرة على تصوير طبائع الناس وإظهار التناقضات الموجودة في المجتمع.

قال أبو محمد: طول بالك علينا أستاذ كمال. خدنا على قد عقولنا. أنا صحيح ما فهمت كلامك كله، بس اللي وصلني إنك عم تمدحه كتير لأبو الجود، وإلا شي بدك تساويه أديب متلك ومتل أبو مرداس. طيب، إذا كان هيك ليش بقي طول عمره منحوس وعم يْعَوّي من الفقر متل الكلب الجعاري؟

قال كمال: هادا موضوع منحكي فيه بعدين. بس بدي قول لما كانت الضيعة اللي انولد وعاشْ فيها أبو الجود زغيرة، كان يقول: يا شباب العيشة في ضيعتنا امتحان، وترى ما بيشبه أي امتحان غيره.

قال أبو جهاد موجهاً كلامه لأبو الجود: شلون بقى ما بيشبه أي امتحان؟ بما أنك ذكي متلما عم يقول الأستاذ كمال تفضل اشرح لنا هالفكرة.

قال ابو الجود: تكرم عينك يا ابو جهاد. بشرح لك الفكرة. خيو الامتحانات مو فيها ناس بينجحوا وناس بيسقطوا؟ ضيعتنا كل الناس اللي عاشوا فيها نجحوا في الامتحان، والدليل إن الكل بقوا عايشين!

قلت: يعني العيشة بضيعتكم بتحتاج لجبابرة، والامتحان هوي بين الحياة والموت ما في حلول وسطية.

قال أبو الجود: نعم. بالضبط. ضيعة جبلية، البيوت تبعها نصها طين ونصها حجر. الناس والحيوانات عايشين مع بعضهم حياة (أخَوِيّة).. وعلى طول الخط بتلاقيهم رافعين الكلفة مع بعضهم. الرجل وزوجته مستحيل يتبادلوا عبارات حب وغزل لأن الأكترية بيعتبروا الحب عيب، لاكن إذا شي مرة واحد من الرجال قال لمرته (بحبك يا روحي) ع الفور بيسمع العنزة عم تقول مااااع! والجاجات بتقول: قيقي قيقي قيق.. شوارع ما في طبعاً، والزقاق الواحد عرضه متر ونص أو مترين، وفي الصيف بتلاقيه مليان بَعْر وترابْ ووَسَخْ، وبيهب الهوا بتطلع زوبعة وبتنزل بعيون الشخص اللي مارق بالصدفة، فبيعرك عيونه وبيطلع لفوق بيشوف قطة عم تنط من سطح للسطح المقابل لأنه في عصفور مسكين واقف مو ملاقي شي ياكله وحاطة بذهنها إنه راح ينتظرها حتى تجي وتاكله وتخلصه من عيشته..

قال أبو ماهر: أنا بعتقد إنه معظم الضيع الزغيرة بتشبه قرية أخونا أبو الجود.

قال أبو الجود: يمكن الضيع التانية بتشبه ضيعتنا في الصيف، أما في الشتي ما في متل ضيعتنا. الزقاق اللي كله تراب، في الشتي بيتحول لطين، وبهالحالة لازم الأهالي يتوقفوا عن لبس الجزمة اللي ساقها قصير، لأنه اللي لابس الجزمة ما بيدوس دوستين أو تلاتة بيكون الطين مسك جزمته وصار يشدّها، لحتى يشلحه إياها ويساويه حفيان، أحسن شي طبعاً الجزمة الرَبَّاطِيّة، اللي بتوصل لفوق الركبة وإلها رباطات.. قليلة هيي المرات اللي بينزل ع ضيعتنا مطر عادي، اللي بينزل خليط مطر مع تلج مع بَرَدْ.. وما بينزل عمودي، بتلاقيه عم يفتل في الجو، وبيختلط مع البَرْق وبيلحقه الرَعْد. وأنا مرة في هالجو الزمهريرْ رحت حتى زور إبن عمي فايز اللي ساكن برات الضيعة.. ولما وصلت على باب دارُه لقيت إنه عامل رصيف من تراب أبيضْ مخلوط ببحص ناعم، ومن وقت دست على الرصيف زحطت ووقعت. صارت تيابي كلها طين أبيض.. وبصعوبة وقفت ودقيت الباب، وإذ مرته لفايز عم تنادي من جوة: مين؟ قلت لها: أنا المحافظ! وبوقتها سمعتها عم تقول:
المحافظ؟ غريبة. أيش جاب المحافظ لعنا؟!

وبعد شوي طلع فايز وهوي عم يضحك وقال لي: أهلين ابن العم. تفضل فوت. قالت لي مرتي إنه المحافظ جاية يزورنا. ولما شفتك استغربت. قلت لحالي أيمت أبو الجود صار محافظ؟ بعدين أنا بعرف إنه محافظ إدلب ما بيتغيرْ!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...