غزة ووهج الحضارة
رغم أن أوسفالد شبينغلر، فيلسوف التاريخ، قد تنبأ في كتابه "تدهور الحضارة الغربية" بتدهور الحضارة الغربية، بعد أن استُنزفت القيم الحضارية والمدنية في المجتمع البشري، إلا أنه يبدو أنه استطاع تفسير مقولة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" وفهم آثارها.
في كتابه، يسلط الضوء على أسباب تدهور الحضارة الغربية ويشبهها بتفسير ابن خلدون لتدهور الحضارة العربية والإسلامية كنموذج لفهم تطور التدهور الحضاري.
تتأسس الحضارة على رؤية عقائدية تشكل "روحاً جماعية" مثل روح الدم أو روح القبيلة، ولكنها تتحول إلى روح دينية عندما يكون المقصود صناعة التاريخ. ومثلما استخدموا "الروح الجماعية" سلاحاً لبناء الدولة، ستصبح في يوم من الأيام أداة لإنهاء الدولة بناءً على رؤية ابن خلدون.
كلما التزمنا طبيعتنا الضيقة والانغماسية، زادت قبحية العالم، وكلما استخدمنا كل المعرفة الفكرية والفلسفية والدينية لفهم هذه الحقيقة، تلاشى العالم الضيق وتحوّل إلى مكان أوسع وأشمل.
تمّ الانتصار لقيم الجمال والحرية عندما تخلص العرب والمسلمون من هوس امتلاك الحقيقة المطلقة. صاغوا حضارتهم التي امتد تأثيرها إلى جميع أنحاء العالم.
في المقابل، قام المجتمع الغربي بالتقدم نظراً لتمكن رجال الفكر والفلاسفة فيه من صياغة مفهوم الإنسانية وتعزيز الإنارة. كانت الإنارة هي الشعلة التي أشعلت بداية حياة جديدة بعيداً عن تسلط العقائد الدوغمائية. تجسد ذلك في الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والثورة الروسية وإعلان حقوق الإنسان، ولاحقاً في الثورة الصناعية التي أحدثت تغييراً جذرياً في تقدير القيمة الفكرية والقدرة الإبداعية للإنسان في خلق حياة أفضل.
يبدو أن نظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ تحمل بعض الحقائق، إذ يمكن اعتبار الحضارة تمر بمراحل مختلفة، بدءاً من مرحلة الصبا ومروراً بالشباب والكهولة أو الشيخوخة. على الرغم من أن النظرية التي وضعها ابن خلدون تأخذ بالاعتبار عمراً فعلياً للحضارة يمكن أن يتزايد أو ينقص، إلا أنها تتوافق بشكل عام مع توقعات فلاسفة التاريخ المعروفة بـ"الحتمية التاريخية". وتشير هذه التوقعات إلى أن كل حضارة لديها فترة تقدم فيها، وهناك فترة أخرى تتجه فيها الحضارة نحو الانحدار وتتوقف عن التقدم بسبب عوامل مختلفة.
بعيداً عن نظرية المؤامرة، ودون إنكار وجودها جزئياً، يجب أن نعترف بأن هناك حضارات كانت متقدمة وكانت مصدر التقدم والإضاءة الحضارية لباقي الأمم. ومع ذلك، تعرضت هذه الحضارات للتراجع بسبب عوامل خارجية وداخلية، والعوامل الداخلية كانت أكثر تأثيراً وتحدياً على الحضارة العربية والإسلامية.
فعلى الرغم من تقدمها في العلوم الطبيعية والفلسفة، إلا أنها أظهرت قدرة على رفض التغيير في الثقافة والعلوم والفلسفة، بعد أن شاركت في تنميتها وتوظيفها وتطويرها. ومثال على ذلك يتجلى في علوم وفلسفة اليونان، حيث قام العرب والمسلمون بشرحها واستيعابها وتقديمها بصورة أفضل وتطبيقها وفقاً للنمط الحضاري الإسلامي، ومن بين هؤلاء المعلم الثاني الفارابي وابن رشد الشارح الأكبر، وكذلك الكندي الذي ساهم في تاريخ الفلسفة الإسلامية.
تمكنت أوروبا وبعدها أمريكا من تطوير مفاهيم مثل الحرية الفردية وحق التملك والمساواة في الحقوق والواجبات والدفاع عن حقوق الإنسان
لا يخفى على أحد ما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للغرب عندما نُقلَت معارفها وفلسفتها إلى مدارسهم. فقد نشأت مدارس سينوية ورشديَّة لاتينية وغيرها في العلوم المختلفة مثل الطب والرياضيات وعلوم الطبيعة والبصريات وغيرها. أكدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الشهير "شمس العرب تسطع على الغرب" حجم وتأثير الحضارة العربية والإسلامية على أوروبا والغرب بشكل عام. وقد قدمت تفاصيل تستحق أن يطلع عليها كل عربي ومسلم في المجالات العلمية والطبية والفلسفية والجغرافية والصناعية والرياضيات والهندسة والملاحة والأرصاد الجوية.
قد تكون النزعة التكفيرية التي قادها الغزالي والشهرزوري، والنكبة التي تعرض لها ابن رشد، قد أثرت في الحضارة العربية الإسلامية في بداياتها، ولكن يجب أن نلاحظ أيضاً دور الحضارة العربية الإسلامية في نهضة الغرب وأوروبا. فقد تمكنت أوروبا، وبعدها أميركا من تطوير مفاهيم مثل الحرية الفردية وحق التملك والمساواة في الحقوق والواجبات والدفاع عن حقوق الإنسان. وبدا أنهم نجحوا في غرس هذه المفاهيم في مجتمعاتهم كحق طبيعي لمواطنيهم. ومع ذلك، فإنها ليست حقاً متاحاً لسكان مجتمعات أخرى تختلف في الرؤية والمعتقد عنهم.
ما يلاحظه هنا هو الاستنكار الذي يثيره ما يحدث في فلسطين اليوم من مجازر ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وخصوصاً في قطاع غزة. يبدو أن الغرب وأميركا يتجاهلون هذه المجازر ويدافعون عن الإسرائيليين الذين احتلوا الأراضي واستولوا عليها. يبدو أنهم يكتبون نهاية عصر التنوير والحداثة ويسهمون في تراجع حضارتهم. فقد تخلوا عن دورهم في الدفاع عن حقوق الإنسان في ممارسة حريتهم والعيش في أرضهم والدفاع عنها. وهذا يكشف عن وجه قبيح لحضارتهم.