غرق حقوق الإنسان في قوارب المهاجرين
تكشفت ازدواجية معايير دول الاتحاد الأوروبي، بعد دخول عملية الاجتياح البري على قطاع غزّة حيّز التنفيذ. فرغم الانتهاكات التي تحدث بحق الفلسطينيين، لم تتردّد الدول الأوروبية في تقديم السلاح لمن يرتكب هذه المجازر، رغم أنّ القوانين والتشريعات في عدد من الدول الأوروبية تحظر تصدير السلاح لدول قد تستخدمه في انتهاك حقوق الإنسان. ومع ذلك، تضاعفت صادرات ألمانيا من السلاح لدولة الاحتلال،عشرة أضعاف ما كانت عليه في عام 2022، وزادت إيطاليا صادراتها من الذخيرة في اعام 2023 إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في العام السابق. وحتى الدول التي أعلنت صراحة إيقافها تقديم السلاح، مثل إسبانيا، كشفت تقارير عن استمرار تدفق الشحنات منها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تمثل إسرائيل الاستثناء الوحيد عند الاتحاد الأوروبي لتجاهل حقوق الإنسان أم ثمّة استثناءات أخرى؟
عندما يتعلّق الأمر بمكافحة الهجرة، يتنازل الاتحاد الأوربي ودوله الأعضاء عن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، بل ولا تتردد في تقديم معونات غير مشروطة بإصلاحات اقتصادية لبعض الدول حين تريد إيقاف الهجرة. وقد بدأ الاتحاد الأوروبي الإعداد لحزمة مساعدات لمصر، ليس بغرض إنقاذ الاقتصاد المصري الذي يئن، ولا نشر الديموقراطية، ولا حماية حقوق الإنسان، بل لمنع تدفق المهاجرين من مصر. وقبلها تحوّل الرئيس التونسي، قيس سعيد، من ديكتاتوري ومستبد إلى شريك حصل بموجب اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على عشرات الملايين لمكافحة الهجرة!
يذهب أعضاء المجموعة الأوروبية أبعد من ذلك، أي إلى عقد اتفاقيات، ليس مع الأنظمة فحسب، بل مع المجموعات المسلحة أيضاً. وإن كان نموذج تمويل قوات الدعم السريع، من خلال مبادرة مسار القرن الأفريقي- الاتحاد الأوربي للهجرة، والمعروف باسم "عملية الخرطوم" وتقديم الدعم الفني والتقني، ظلّ أمراً
ينكره المسؤولون الأوروبيون، رغم أنّ سعي نظام الإنقاذ بقيادة المخلوع عمر البشير لتقنينها وشرعنة وجودها، ينفي عنها صفة المليشيا في ذلك الوقت، من ناحية قانونية على الأقل.
نتنبى الخطابات والمواقف الخارجية بشكل كلّي، دون أن نأخذ منها ما يفيدنا، وكأننا وكلاء، لا أصحاب مصلحة
على أيّ حال، لا يبدو أنّ قضية شرعية وقانونية "الدعم السريع" كانت أمراً ذا أهمية للاتحاد الأوروبي، فقد كشف تقرير حديث لمسح الأسلحة الصغيرة عن تعاون دول الاتحاد الأوروبي مع المجموعات المسلحة في مدينة الزاوية الليبية من أجل مكافحة الهجرة. انطوى التعاون على دعم فني ومادي لتمكين هذه المجموعات من مكافحة الهجرة. ورغم أنّ هذه المجموعات متورطة في نشاطات غير مشروعة مثل التهريب والإتجار بالمخدرات؛ فقد ارتضت الدول الأوروبية التعامل معها، طالما أنّ تدفق المهاجرين سيقل وأرقامهم ستنخفض.
المجموعة الأوروبية التي تجمّد برامجها التنموية ودعمها لبلد ما فور وقوع تغيير غير دستوري أو انقلاب، لا يتوّقع أنّها قد تكون تدعم دولاً ذات طابع استبدادي، ولها سجل ملطخ بانتهاكات حقوق الإنسان. كما أنّه من المثير للسخرية أن تقوم المجموعة الأوروبية الساعية لاستقرار الدول وتعزيز الديمقراطية بمنح قبلة حياة وشرعية لمجموعات مسلحة، نشاطها وعملها هدّام وتدميري. وهذا الدعم على المدى البعيد يُصعّب من خضوع هذه الجماعات لمؤسّسات الدولة، بل ويشكّل عائقاً أمامها.
نعم هنالك أصوات مناوئة داخل المفوضية الأوروبية، لكن ما يمضي في آخر اليوم هو مصلحة الاتحاد الأوروبي. بينما هنا، في السودان، نتنبى الخطابات والمواقف الخارجية بشكل كلّي، دون أن نأخذ منها ما يفيدنا، وكأنّنا وكلاء، لا أصحاب مصلحة. نحتفي بخطاب يدعو لحماية حقوق الإنسان، بينما لا تتردّد هذه الجهات في إغراق الخطاب والإنسان معا، قبل أن يصل الأخير إلى حدودها.