عن ضرورة التغيير... كن نسراً أو احفر قبراً
على الإنسان أن يتوقف مع نفسه للحظات، كي يدرك سرّاً من أسرار الله في الكون، بل كي يدرك حكمة الله في هذا الكون، فيتعلّم من خلال التغيّرات الكونية مناقب التغيير، حيث تختفي وتظهر أنواع عديدة من الحيوانات والطيور، نتيجة عدم التأقلم والتكيّف مع التغيّر المناخي الموجود.
وبحسب دراسة نشرت في دورية "البيئة والتطوير"، تغيّر الحيوانات والطيور شكلها ومنقارها، وأحياناً أرجلها، نتيجة للتغيّر المناخي لتعيش فترات طويلة في الحياة، فيما تستسلم بعض الحيوانات أو الطيور لما هي فيه، فتموت وتنقرض.
من الطيور التي تخوض عملية تغيير صعبة ومؤلمة في الحياة: النسر. فبوصولهِ إلى سنّ الأربعين، ليس أمامهُ إلا خياران لا ثلاث لهما، إما الاستسلام والموت، وإما خوض عملية مؤلمة تستمر لخمسة أشهر، عملية صعبة وقرار صعب وغريب وقاسٍ ومؤلم، بدلاً من أن يستسلم للموت عاجزاً ومحبطاً، كما تستسلم أمتنا حالياً. ولخوض عملية التغيير والولادة من جديد، يكسر النسر منقاره متحمّلاً ألماً لا يُطاق، ويكسر مخالبه، وينتف ريشه. إنها لعملية صعبة وشاقة، إذ يصبح مكسور الجناح لا يستطيع الطيران، مضحياً باعتزازه وجبروته لتعود إليه حيويته، ويحلّق في السماء في رحلته الجديدة، فيولد من جديد، قوياً معافىً، ليعيش بعدها ثلاثين عاماً من الحيوية والنشاط، مكملاً دورة حياته إلى السبعين.
في الحياة الواقعية للبشر، نجد العديد من الشركات والمؤسسات والمنظمات والدول والأفراد الذين لم يتعلّموا من قصة الحيوانات والطيور، فيبقوا يتغنون بكونهم شركات أو مؤسسات عملاقة، ولا يواجهون التغيّرات الكونية بالتطوّر والابتكار، معتقدين في مخيّلاتهم أنهم مطوّرون ومغيّرون، حتى يتجاوزهم الزمن، نتيجة الركون إلى سياساتهم وأساليبهم وأدواتهم ووسائلهم التي عفا عليها الوقت وتجاوزها الزمن، فليس هناك أيّ ابتكار أو تجديد يدفعهم إلى الأمام، وما شركات مثل نوكيا، وبلاكبيري وموتورولا إلا أمثلة على ذلك، وأيضاً شركة كوداك المتخصّصة في الكاميرات الرقمية التي أعلنت إفلاسها في 2012 بعد نجاح استمر لأكثر من مائة عام، نتيجة اعتمادها على الاستراتيجية المنطقية بدلاً من الاستراتيجية الابتكارية، بالإضافة إلى اعتمادها التغيير التدريجي بدلاً من التغيير الثوري في الأفكار والأطروحات والوسائل. وهناك أيضاً شركات أخرى عديدة، كانت في وقت من الأوقات ملء السمع والبصر، ولكن نتيجة عدم مسؤولية الإدارة أو الإدارة المقاومة للتغيير، تخطتها الشركات المنافسة وتجاوزها الزمن، فأصبحت من الماضي اسماً لا يُذكر في عالم التكنولوجيا، وينطبق هذا على المؤسسات والدول والمنظمات الكبرى والأفراد.
عدم استعداد القادة والأفراد لضرورة إحداث التغيير والحاجة إليه وتعطيله أو تأخره، يحول دون تقدمهم لعقود، ويجعلهم في ذيل الشركات أو المؤسسات أو الدول
هنا يمكن القول إنّ نجاح أيّ شركة أو مؤسسة أو منظمة يعتمد كلياً على عاملين:
العامل الأول، يتمثل بالقدرة على الابتكار وتقديم الجديد واستيعاب المخلصين القادرين على تحويل دفة الشركة أو المؤسسة نحو التقدم، وعدم التعلّل بأقوال مثل "الحفاظ على الأصالة"، أو "ما نعرفه أفضل" أو "ما وجدنا عليه أسلافنا"، نتيجة عدم القدرة على ابتكار غيره أو المحافظة على أمان الشركة دون أي داعٍ، فمن دون تطوير حقيقي للآليات والأدوات والسياسات، وعدم تفريغ المقترحات والخطط من مضمونها، أو العمل بذات الأسلوب السابق الذي نعرفه مع تجربته وفشله، أو نتيجة عدم المعرفة بمتطلبات التغيير ومراحله وخطورة تحجيمه... هذه كلها (وغيرها أيضاً) من أهم المعوقات أمام التقدم والتطوّر للمجتمعات والمنظمات والشركات، فعدم استعداد القادة والأفراد لضرورة إحداث التغيير والحاجة إليه وتعطيله أو تأخره، يحول دون تقدمهم لعقود ويجعلهم في ذيل الشركات أو المؤسسات أو الدول.
العامل الثاني، هو القدرة على احتمال الآلام نتيجة مغادرة ما نعرفه ونتقنه من كونه لا يجدي نفعاً وسط زخم التطوّر والتكنولوجيا الحديثة وعالم الذكاء الاصطناعي. فالمطلوب هنا، تحقيق الأهداف، لا المحافظة على ثبات الشركة أو المؤسسة على الآليات والسياسات التي عفا عليها الزمن، وفشلت في تحقيق أهدافها، فأن تتألم المؤسسة أو الشركة، سواء بتغيير نشاطها أو أدواتها، أو بتحقيق النجاح والتقدم، وجعل نفسها رقماً صعباً في المعادلة يصعبُ تجاهله، أفضل من التغنّي بالثبات والاستقرار والمحافظة على الشركة من الموت المؤقت، لأنها ستنهار وتموت في النهاية إن لم يحدث التغيير.
فكما يخوض النسر عملية صعبة ومؤلمة، وكما تخوض الحيوانات الأخرى عمليات شاقة وتتخذ قرارات معقدة، يجب على الشركات أو الدول أن تولد من جديد، كي تستمر، ويرفرف علمها أو شعارها فوق سماء التغيير، فتكون قوية عصرية متجدّدة لتعيش بعدها مائة عاماً.
لتكن الدولة أو المؤسسة أو الأفراد أو الشركات نسراً... أو لتحفر قبراً.