عن سورية جارة الرضا
"إنت سورية؟"، "بحسّك بتحبيها أكثر من ابن البلد نفسه"، "اللي بشوفك قديه فرحانة وعم تنزلي بقول إنك من هونيك" (أيّ من سورية).
تبتسم روحي عند قراءة هذا النوع من التعليقات وكأنها تطمئن لشيءٍ تعلم أنها تنتمي إليه ويسكن في أعماقها. لكن هذا لا يمنع أن تسأل نفسها عن السبب: لماذا؟ لماذا يتجذّر هذا الحبّ في العروق على الرغم من المسافات؟ يقولون: "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، وإنّ "البعد جفا"، لكن حبيبتي سورية أثبتت لي العكس.
"الدم بحن؟" ربّما. تعود والدتي بجذورها إلى أصول سورية، فوالدها كان من إدلب، المدينة المنسية التي لاقت الكثير من القمع والحصار في عهد بشّار المجرم الهارب، لكنها (والدتي) لم تعش طفولتها هناك.
أما أنا، فأحمل في قلبي سلسلة من صور تعود إلى طفولتي على الشاطىء الأزرق في اللاذقية، وزيارات متكرّرة للشام. فسورية كانت بالنسبة إلينا بمثابة نافذة نتنفّس من خلالها، تاريخًا مشتركًا، مركزًا حضاريًا وثقافيًا هامًا، حيث نجد أنفسنا في أرض تحمل جزءًا منا.
آخر زيارة لي كانت في صيف 2010، لم أعلم حينها أنّها ستكون الأخيرة، ولم أعِ كلّ التفاصيل حينها لأنني كنت في سنّ صغيرة. يتبادر في ذهني الآن مشهد سوق الحميدية، السوق الأجمل والأوسع في دمشق، بممراته المزدحمة، حيث تجد فيه كلّ ما تحتاجه. من منّا لا يعلم "بوظة بكداش"، البوظة الدمشقية الأشهر في السوق، المُغطاة بالفستق الحلبي. شوارع دمشق وأزقتها الدافئة المبنية من حجارة قديمة تشهد على همسات وخطوات وأسرار لا تنتهي، طيبة ناسها وبساطتهم، الجامع الأموي، قبلة الدمشقيين وبوصلة الحضارة الإسلامية كما يسمّى، وغيرها من مشاهد المقاهي والمطاعم التي تعبق برائحة الأطباق الدمشقية الفائحة منها روائح المأكولات الشهية، حتى كوب الشاي البسيط له طعم مختلف يحمل روح المكان. قد تبدو للبعض مجرّد لحظات أو تفاصيل عابرة لا تحمل الكثير من الأهمية، لكنها تحمل لي عالماً خاصاً عن جزءٍ بسيط جداً من ياسمينة قلبي.
شوارع دمشق وأزقتها الدافئة المبنية من حجارة قديمة تشهد على همسات وخطوات وأسرار لا تنتهي
سورية كانت مرآة عيون الممثلين والمخرجين، كلّ مسلسل حمل في طياته الكثير من الجمال والدراما، وكلّ مشهد التقط لنا تفاصيل المجتمع السوري بصدق، صوّر لنا مدنها الرائعة بكلّ ما فيها من جمال وسحر ومأساة وألم. كذلك عكست الأعمال حياتهم اليومية وصراعاتهم، وبعثت فينا شعورًا بالحنين إلى أماكن وأزمنة نبضت بروح دمشق الأصيلة، لم نعايشها لكننا شعرنا بها حتى أصبحت جزءًا من ذاكرتنا. حاضرة في كلمات المغنين والشعراء، قصائد تروي حكايات الأماكن وتمنح كلّ زاوية من المدينة روحاً تنبض في أعماقنا.
ربيع 2011، سجّل فصولاً جديدة في تاريخ سورية، مع قيام ثورة محقّة رافضة لحكم عائلة الأسد القمعي. خرجت مئات المظاهرات مطالبة بالحرية، لكن قوبلت بالقتل والقمع والدمار والقصف واستخدام أبشع أنواع التعذيب بأساليب لا يتقبلها العقل. تحوّلت المحافظات إلى ساحات من الخراب، وتمّ تشتيت الشعب السوري في مختلف أنحاء العالم حيث باتوا لاجئين، حاملين في قلوبهم آلام وطن ظنّت عائلة الأسد أنها تملكه.
أتذكر حالتي جيّداً يوم 8 ديسمبر 2024، يوم سيطرة قوات المعارضة على مدينة دمشق، وفرار الطاغية بشار الأسد. كان يومًا استثنائيًا بكلّ المقاييس، لحظات لا تتكرّر. على وقع أغنية "جنة جنة جنة" لبلبل الثورة السورية عبد الباسط الساروت، حيث احتفلنا بدموع الفرح. هذه الدموع لغة قلوبنا التي امتزجت بسنوات من القهر والانتظار، استعدنا فيها حريتنا المسلوبة، حلم طويل قد تحقّق. كان مرهقًا في انتظاره وشاقًا بعيد المنال نعم، لكنه تحقّق.
في البداية، لا أنكر أنني كنت متخوّفة بسبب التحوّلات السريعة التي حصلت، وعلى الرغم من ضبابية المشهد الآن والترقب للمستقبل، أفرح لفرحة الشعب السوري وينشطر قلبي دائمًا عليه، في أفراحه وأحزانه، هم في فرحٍ عارمٍ الآن؟ الباقي لا يهمّ. كلّه لا يهم أمام شعب عايش حكم سفاح دكتاتوري. وحدها الشعوب تقرّر مصيرها، وحدها هي.
بالطبع بعد كلّ الذي رأيناه من ظلم، تبقى الفرحة ناقصة بالنسبة إلى العديد من العائلات، فالكثير منهم فقدوا أحباءهم ولا يعلمون عنهم شيئاً. ومع كلّ هذا، أستذكر قولاً لإحدى أيقونات الثورة، مي سكاف: "لن أفقد الأمل، إنها سورية العظيمة وليست سورية الأسد".
قلبي يا سورية، كوني بخير دائمًا.