عن زمن الفن الجميل الذي لم يكن كذلك تماماً (2 من 2)

08 فبراير 2021
+ الخط -

إذا كنت من القراء المتابعين لمقالات نقاد السينما في مصر فأنت تعلم إذن أن هناك مصطلحاً شائعاً اسمه "السينما النظيفة" يهاجمه نقاد مصر بشدة، وينسبونه إلى ممثلي وممثلات الموجة الشابة التي سيطرت على إنتاج السينما المصرية بدءاً من فيلم إسماعيلية رايح جاي، حين أصبح أغلب هؤلاء الشباب يرفضون القبلات ومشاهد الجنس في أفلامهم معتبرين أن هذا يندرج تحت بند "السينما النظيفة" التي تعجب غالبية الأسر المصرية والتي عادت لتصبح أبرز فئة من فئات جمهور السينما بعد أن ابتعدت لسنوات طويلة عن دور العرض، ويرى النقاد أن هذا الموقف من الفنانين الشبان مغازلة للمجتمع الذي سيطرت عليه تيارات التطرف الديني التي فرضت عليه قيماً أخلاقية لم تكن مألوفة حتى وقت قريب. ولست الآن بصدد مناقشة هذا الموقف، فالمفاجأة التي أهديها للجميع أن مصطلح السينما النظيفة لم يكن محمد هنيدي أول من أطلقه بل كان الزعيم محمد نجيب، ولم يكن السينمائيون الشبان وراء إطلاقه لأول مرة في تاريخ السينما المصرية بل كان من أطلقه الضباط الأحرار شخصياً بعد ثورة يوليو 1952، وبيني وبينك الأرشيف، وهذا بعض ما ستجده فيه:

ـ بعد قيام ثورة يوليو بعدة أسابيع نشرت الكواكب كبرى المجلات الفنية وقتها موضوعاً بعنوان (القائد العام فنان موهوب)، حمل إلى جانب صورة محمد نجيب قائد ثورة يوليو وقتها عناوين فرعية قد تغنيك عن قراءة نصه جاء فيها: " القائد العام محمد نجيب يؤلف مسرحية اسمها (بشير أفندي) ـ القائد العام ينظر إلى السينما نظرته إلى المدرسة الحديثة التي تأخذ بيد الشباب إلى طريق الفضائل ـ يرى أن أوجب الواجبات البحث عن القصة النظيفة التي تشيد بمجد مصر".

ـ في باب حدث هذا الأسبوع نشر خبر يقول نصه: "تسلمت وزارة الداخلية شكوى من المفوضية الأندونيسية بصدد الأفلام التي تشتمل على مناظر راقصة خليعة، والتي يعرضها المنتجون المصريون في السوق الأندونيسية، وقد أحيلت هذه الشكوى إلى إدارة الرقابة لإتخاذ اللازم".

ـ بعدها بأسابيع نشرت الصحف خبراً يقول: "رفضت رقابة السينما بوزارة الداخلية عدداً كبيراً من القصص السينمائية التي يغلب عليها طابع التبذل والتهريج وقد طلب إلى أصحاب هذه القصص تأليف موضوعات جديدة تتفق مع العهد الجديد". بدأت الصحف بعدها تنشر أخباراً عن التفكير في تشكيل لجان لإختيار الأفلام التي يتم إنتاجها ليتم ضمان كونها متوافقة مع مبادئ العهد الجديد، لكن فتحي رضوان وزير الإرشاد نفى ذلك بعد أسابيع وقال أنه لن تشكل لجنة كهذه لكنه يرجو المنتجين أن يختاروا القصص التي تتماشى مع حركة تطهير الاخلاق التي يتبناها الجيش، بعدها بأسبوعين تم الإعلان عن تشكيل لجنة تطهير مؤلفة من الرقباء كمال كيره ومحمد حسين الكاشف وحسين زغلول ومحمد زكريا كامل وصفت بأنها "توالي جهودها لتهذيب الأفلام السينمائية التي صرح بها في العهد الماضي بحذف المناظر التي تتنافى مع الآداب والقواعد السليمة"، والتي لم يتم تحديدها كالعادة.

أطرف ماترويه الكواكب في ختام الموضوع كيف أن المطرب محمد الكحلاوي كان يصر على أن تكون مشاهد التقبيل قاصرة عليه وحده باعتباره المنتج والبطل والملحن

ـ في نفس الوقت نشر خبر مجهل شديد الدلالة يقول بالنص: "تلقت نقابة السينمائيين من إحدى الجهات المسئولة خطاباً تطلب فيه من المخرجين أن ينظروا إلى الرقص الشرقي على أنه فن جميل وليس وسيلة لإثارة الشهوات وطلبت منهم أيضا أن يراعوا عند اختيار الراقصات للعمل في أفلامهم أن يكنّ من أبرع الراقصات"، ولم أجد فيما كل ما قرأته في تلك الفترة تحديداً لتلك الجهة المسئولة التي قررت وهي في مرحلة بناء وطن وفي أعقاب ثورة، أن تشغل بالها براقصات الأفلام وضرورة ألا يثرن الشهوات بل وتجاوزت ذلك إلى دعوة المخرجين لفلترة الراقصات، في نفس الوقت الذي كان يتم فيه ضرب كل القوى الوطنية من إخوان وشيوعيين ووفد وكل من يفتح فمه ولا يهز وسطه.

في ذلك الوقت لم يوفر الفنانون كالعادة لا الجهد ولا الوقت في إعلان تأييدهم القاطع المانع للحركة المباركة، تحكي المجلات الفنية أن الفنان شكوكو بلغه خبر "حركة الجيش" وهو واقف على مسرح في الزقازيق "حين اقتحم بائع صحف المسرح وأخذ يبيع جرائد المساء التي نشرت الخبر السار فتخاطفها الجمهور وتركوا شكوكو على المسرح فسأل مدير المسرح الذي قال له إن الملك تنازل عن العرش، فصاح شكوكو في بائع الصحف: اديني واحدة وأخذ يطالع الجريدة على المسرح في مشهد لم يسبق له مثيل". أما الموسيقار محمد عبد الوهاب فتحكي مجلة الكواكب أنه "كان من بين الخطابات التي أرسلت إليه بعد حركة الجيش رسالة من أحد المعجبين كتب على مظروفها إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء" فكتب عبد الوهاب على الظرف " لا يُعرف شخص بهذا اللقب في هذا العنوان"، وأعاد الخطاب إلى صندوق البريد. أما ماري منيب فقد وقفت في الطابق الثاني من مبنى مسرح النجمة لتلقي حبات الملبس على الجماهير التي وقفت في الطريق لتحية موكب نجيب وهي تصيح "خلاص ياولاد حكم قراقوش". بديع خيري بدوره أعلن فورا عن إعداد فرقة الريحاني لمسرحية مستوحاة من العهد الزائل. وأصبح من المألوف أن تقرأ في كل صحيفة ومجلة فناناً يزايد على الآخرين في تأييده لحركة الجيش بما لايتسع المقام لنقله.

في هذه الأجواء وتحت عنوان (القبلات ممنوعة في الأفلام المصرية) تصاعدت حملة مجلة (الكواكب) للدعوة إلى "السينما النظيفة"، التي نشرت موضوعاً يؤكد أن لائحة الرقابة تقول إنه من الممنوع أن تدوم القبلة على الشاشة أكثر من ثلاث ثوان وإلا وقف مقص الرقيب لها بالمرصاد. ثم حكى الموضوع أن "بين ممثلاتنا المعروفات من يرفضن التقبيل بحجة أن هذا مخالف للعرف والتقاليد مثل الآنسة أم كلثوم التي كانت تصرعلى أن يذكر صراحة في عقد الفيلم أنه خال من مواقف القبلات حتى لو تحتم ذلك، أما فاتن حمامة فقد أوقفت مرة العمل في فيلم بسبب إصرارها على ان لايقبلها البطل وكاد الخلاف يصل إلى القضاء لولا أن تم إقناع المخرج بالعدول عن تصوير المشهد ـ أما ليلى مراد فكانت لا تسمح بتقبيلها بل كانت تكتفي بأن يطبع البطل قبلة بريئة على وجنتيها، وبعد أن تزوجت أنور وجدي كانت تكتفي بتقبيله هو فقط، أما شادية فقد كانت عندما يعرض عليها سيناريو تسأل المخرج أولاً: "فيه في السيناريو بوس ياأستاذ"

ـ أما ماجدة فقد حدث أن اقتضى مشهد في فيلم حبايبي كتير أن يقبلها البطل قبلة بريئة لكنها رفضت ولكن المخرج أقنعها بتمثيله وصورته ولكنها ظلت تبكي طيلة اليوم ولم تستطع إكمال العمل، وعادت مع أقاربها في اليوم التالي لتطالب المخرج بحذفه وإلا فإنها لن تكمل العمل، أما نور الهدى التي ترفض التقبيل رفضا باتا فهي كأم كلثوم تضع بند تحريم القبلة في العقد، وحدث في أحد أفلامها أن كان المشهد يتطلب تقبيل زوجها لها بعد عودته لها من قصة غرام مع راقصة، وبالطبع رفضت نور الهدى التقبيل فجاء المشهد بارداً مما أثار أحد المتفرجين فوقف وصاح بأعلى صوته أثناء عرض الفيلم يشتم البطل أنه لم يقبلها، ولو عرف هذا المتفرج أن الممثل مظلوم وأنه كان بوده أن ينهال عليها تقبيلا لولا أنها تصر على حذف القبلات".

أطرف ماترويه الكواكب في ختام الموضوع كيف أن المطرب محمد الكحلاوي كان يصر على أن تكون مشاهد التقبيل قاصرة عليه وحده باعتباره المنتج والبطل والملحن، وحدث في أحد أفلامه أن أصر المخرج على أن يقوم أحد الممثلين بتقبيل فتاة في مشهد كوميدي، ورفض الكحلاوي أن يصور هذا المشهد، واحتدم النقاش بينه وبين المخرج فثار الكحلاوي وأقسم على أن تحذف جميع مناظر القبلات في الفيلم بما فيها قبلاته هو شخصياً.

وفي محاولة منها لربط الدعوة المتصاعدة إلى إرساء الفضائل والبعد عن الرقص والقبلات والمسخرة تعيد الكواكب نشر قصة عجيبة لأغنية شهيرة هي أغنية "آمنت بالله"، والتي ربما كانت أول أغنية تذهب إلى النيابة بتهمة إزدراء الأديان، كان ذلك في الثلاثينات، كما نشرت الكواكب في موضوع بعنوان "صورة التقطت بأمر النيابة" تصدرته صورة لفرقة ببا عز الدين المسرحية الشهيرة وقتها والتي قررت أن تقدم استعراضا مسرحيا عنوانه "آمنت بالله" كتبه ولحنه محمد مصطفى، وهي نفس الأغنية التي غنتها بعد ذلك المطربة لوردكاش واشتهرت بها بل وظهرت تغنيها في فيلم (يا تحب يا تقب) قبل أن تموت بسنوات، وقتها كانت المونولوجست فتحية محمود هي التي تغني الاستعراض بصحبة أجمل راقصات فرقة ببا عز الدين التي كانت قد اعتزلت الرقص وقتها واكتفت بإدارة ملهاها الليلي.

تقول الكواكب: "وزعت ببا على الجماهير في المقاهي والطرقات إعلانات تدعوهم فيها لمشاهدة الاستعراض... وكما هي العادة تناثرت بعض هذه الإعلانات في الطرقات، وحدث أن كان أحد رجال الأزهر سائرا في الطريق حين اكتشف أنه يدوس بقدمه على الإعلان، وعندئذ ثارت ثائرته للوضع الذي امتهنت فيه كلمة "آمنت بالله" فبادر بإرسال الإعلان مع شكوى حارة إلى كبير مسؤول من رجال الدين الذي أثارته الشكوى فأحالها إلى النيابة للتحقيق... وكان الأمر أخطر من أن تقف النيابة إزاءه مكتوفة اليدين فكلفت أحد رجالها بالتحقيق. وسرعان ما أمر المحقق بالقبض على المرحومة ببا ومحمد مصطفى مؤلف الأغنية وسيق الإثنان إلى دار النيابة حيث جرى التحقيق معهما".

في التحقيق دافعت ببا عن نفسها قائلة إن ما حدث وراءه إهمال قارئ الإعلان الذي كان يجب عليه ألا يلقيه في الطريق، لكنها فوجئت بأن النيابة تسألها عن نوع الملابس التي يظهر بها الممثلون في الاستعراض فتجيب أنهم يرتدون ملابس تونسية تغطي الجسم كله وليس فيها شيئ يتنافى مع إحترام الأغنية، ثم سألت النيابة مؤلف الأغنية عن كلمات أغنيته وطلبت منه أن يقدمها للنيابة، ثم سألته النيابة "ماذا تقصد بكلمة آمنت بالله.. نور جمالك آية من الله"، فكانت إجابة المؤلف: "أقصد أن الله يحب الجمال ومعنى هذه الكلمة أنني أقدس صنعه جلت قدرته فالجمال هو آية من صنع الله"، ولم تشف الإجابة غليل وكيل النيابة الذي سأله مجدداً: "وماذا تقصد من عبارة نور جمالك للسقيم لو رآه يصبح سليم"، فيجيب المؤلف "قصدت نفس معنى العبارة وهو أن نور جمالها للمريض كالدواء الشافي"، وأضاف أنه عرض الأغنية على الرقباء الذين كانوا يتبعون وزارة الداخلية وقتها.

انتهى الاستجواب لكن المحقق رأى أن يستوثق من أن الأغنية لا تعرض على المسرح بصورة غير لائقة، فقرر الانتقال إلى صالة ببا لمشاهدة الاستعراض، وهناك كما يقول محرر الكواكب: "لأول مرة كانت فتحية محمود تغني آمنت بالله وهي تعمل لألفاظها وحركاتها ألف حساب، وكانت الراقصات يؤدين رقصة الاستعراض كما لو كان السيف مصلتاً على رقابهن، ولا غرو فقد كان الجميع يعلمون أن عين النيابة تفحصهم خلال ميكروسكوب الإتهام، وبعد أن شهد المحقق الاستعراض ورأى أنه لا يتنافى مع الآداب أو اللياقة أمر بالتقاط صورة لمشهد عام منه كي ترفق بأوراق التحقيق".

انتهى بعض ما وجدته في أرشيفي فهل انتهت رغبتك في تشغيل اسطوانة زمن الفن الجميل دائماً وأبداً؟

...

فصل من كتابي (فتح بطن التاريخ) الذي صدرت طبعة جديدة منه عن دار المشرق.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.