عن زمن الفن الجميل الذي لم يكن كذلك تماماً (1 من 2)

07 فبراير 2021
+ الخط -

ليس جديداً أن نقول إن مصر تعشق أن تصبح على ما باتت فيه، وتحب أن تعيد اللي تزيده. هذا هو حالها للأسف وحالنا، ليس فقط بدليل الربع قرن الماضي الذي أضعناه في اللا شيئ، لأنك ستكتشف أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير، لو كنت مولعاً بذلك الولع المؤلم والممتع، ولع الأرشيف واقتناء المجلات القديمة التي قد تصيبك في البداية باليأس لكنها مع الوقت ستتحول إلى مسكِّن، يمكنك من التعايش مع الحياة في بلد عاشت كل معاركها ومشاكلها وأزماتها وهزائمها بدل المرة ألف مرة، بلد تبدأ القرن وتنهيه وتدخل في الذي يليه وهي تتحدث عن نفس المشاكل والأزمات بنفس المنهج ونفس الطريقة بل وبنفس الألفاظ.

ستجعلك أي قراءة منتظمة لأرشيف الصحف القديمة تكتشف كيف يعيش المصريون الآن أسرى لوهم من فرط إلحاحهم على تصديقه، تحول إلى سيف مُصلت على رقاب الأجيال الحالية والقادمة التي يرهبونها ويؤتّتونها ويلعنون سنسفيلها مستخدمين وهماً ليس له وجود، وهم اسمه (زمن الفن الجميل)، مع أن الله تعالى خلق كل الأزمنة مليئة بالجمال والقبح معاً، وربما كان هذا سر جمال الزمن وسر قبحه أيضاً. وقبل أن تنهال الشتائم علي لتتهمني بتشويه الزمن الجميل لمصلحة الزمن القبيح، سأدع الأخبار والوقائع المستقاة من أكثر صحف ومجلات مصر احتراماً ومصداقية في القرن الماضي تتحدث، مذكراً بأنني أحتفظ بأصول كل ما ستقرأه هنا، وأنني لم أختر إلا ما ثبت عدم تكذيبه في الأعداد التالية لنشره، وعلى زمن الفن الجميل اتفرج ياسلام:

ـ تحت عنوان (حوادث على خشبة المسرح) نُشرت هذه الحادثة بأسلوب الكتابة الصحفية قديماً وجاء في نصها الآتي: " المفروض في مناظر السكر على المسرح أن يتناول الممثلون شراباً لايمت إلى الخمر بصلة، ولكن في إحدى روايات يوسف وهبي أراد أربعة من ممثلي الفرقة وهم حسن البارودي وأحمد علام وسراج منير وفتوح نشاطي أن يكون سكرهم بحق وحقيق فأحضروا ذات ليلة زجاجة ويسكي شربوها أمام الجمهور حتى الثمالة، وكانت النتيجة أن شردت عقولهم، وبدأوا يرددون كلام الملقن خطئاً وسط ضحك الجميع". تخيل لو حدثت هذه الحادثة الآن كيف سيكون التعليق عليها في الصحف وكيف سيلعن الجميع سنسفيل ممثلي زمن الفن القبيح ويترحمون على عظماء زمن الفن الجميل.

ـ "أتمنى أن يتعود زوجي نيازي مصطفى الذهاب إلى مكة والمدينة بدلاً من فينسيا وكان وهوليود وأن يؤمن الزملاء معي بأن الفن يصح أن يتوجه وجهة مفيدة غير التي درجوا عليها منذ سنوات". كان هذا نص تصريح نشرته مجلة (الكواكب) للفنانة كوكا عقب ثورة يوليو 1952، دون أن توضح كوكا قصدها بالوجهة التي دعت أن يتوب منها زوجها وزملاؤه، وبالمناسبة كان التصريح جزءاً من حوار أجري مع عدد من الفنانين عنوانه (لو أديت فريضة الحج) وفيه قالت أمينة رزق إنها ستدعو الله أن يشمل التطهير جميع أنحاء الوسط الفني.

ـ في مقدمة حوار أجراه مع الشاعر العملاق بيرم التونسي عام 1953 ـ يعني في ذروة عطاء وتألق بيرم ـ يقول الصحفي لطفي رضوان: "طلبت من بيرم أن أزوره في منزله فقال لي ربنا أمر بالستر عاوز تفضحني ليه"، ذهب لطفي إلى بيرم في بيته في شارع النواوي في حي السلخانة فوجده يجلس ليكتب جالساً على كليم جوار باب الشقة مبررا له ذلك بأن أولاده يملأون غرف الشقة الثلاث، ولذلك قرر الجلوس جوار باب الخروج، قائلاً له: "لا أحد يعرف مهنتي في هذا الحي حتى زوجتي إذا سألتها احدى جاراتها النبي حارسه بيعمل إيه؟ أجابتها والله مانا عارفه أهه بيشتغل وخلاص وبيجيب فلوس.. ده المهم.. إنني أعيش في بلد لايعرفني.. أبيع الأغنية بمليم بسبب عدم اعتراف مصر بحقوق المؤلف.. لقد قال سيدنا سليمان الحكيم عن الهدهد لأذبحنه ولأعذبنه عذابا شديدا فقيل له ماهو العذاب الذي يكون اشد من الذبح فأجاب أن يوضع في طائفة من غير بني جنسه كذلك أنا يا صديقي".

الشاعر بيرم التونسي

ـ "كان حسين رياض ممثلا ذائع الصيت منذ عشرين عاما وكان حسن فايق يستغل إسم ممثل صغير في فرقته يدعى حسين رياض في الدعاية عن الفرقة، حتى يوهم الجمهور بأن حسين رياض الأصلي يعمل عنده. المرحوم نجيب الريحاني تشاجر ذات يوم مع عبد الفتاح القصري واعتدى عليه بالضرب لأن القصري أهان أحمد عمال المسرح". (نص فقرتين منشورتين ضمن باب أضف إلى معلوماتك في مجلة الكواكب العدد رقم 53).

ـ "بينما كان الفنان عزيز عيد يؤدي دوره في مسرحية تراجيدية لم تلق هوى لدى الجماهير أخذ المتفرجون يتصايحون مهللين "عاوزين ضحك عاوزين ضحك"، واصطنع رحمه الله الصبر طويلا دون جدوى حتى إذا وجد فنه لايلقى الآذان الصاغية خرج عن دوره وخاطب المتفرجين "انتو عاوزين تضحكوا.. طيب. بطل تمثيل ياجدع"، وراح يتشقلب على المسرح ويثير ضحكهم ودموعه تملا عينيه صائحا بهم "اضحكوا بقى.. اضحكوا زي ما انتم عايزين"، وأمر بإنزال الستائر ورد أثمان التذاكر الى النظارة وقضى ليلة سيئة يبكي الفن الصحيح ويرثي لشعب لايقدر الفن. (لاحظ أن التهمة كالعادة رسيت على الجمهور وليس على فن عزيز عيد نفسه. ولاحظ ايضا أن هذا الكلام نشر في أغسطس 1952).

ـ "عندما يجتمع المخرج ومساعدوه في صالة عرض الأفلام الموجودة في الاستديو لمشاهدة بعض المناظر التي تم تصويرها وسماع حوارها يفاجئون أحيانا بأصوات سجّلها الميكروفون عفواً، فيسمعون مثلا صوت بطل الفيلم وهو يقول للبطلة "ماتعرفيش قد إيه أنا متضايق منك وقرفان من الشغل معاكي"، فترد عليه البطلة في غضب "وإيش تكون انت يا حشرة عشان تتضايق مني.. احمد ربنا إني قبلت أمثل معاك المشهد ده.. والحقيقة أنا كنت أتمنى الموت على إني أظهر معاكي في فيلم واحد"، وفجأة يصيح المخرج قائلاً: ابدأوا العمل، وهنا ينقلب الحوار بين البطل والبطلة إلى عبارات رقيقة كلها غزل وهيام". (نص خبر نُشر في باب وراء الستار ـ الكواكب عدد 55 دون تحديد أسماء أبطال في عصر ذروة الأفلام الرومانسية التي نتغزل نحن فيها جميعا الآن).

ـ عقدت مجلة الكواكب ندوة لمنتجي الأفلام لمناقشة سؤال: "لماذا لاتصل أفلامنا إلى الخارج؟"، الندوة التي حضرها منتجون مثل أنور وجدي ومحمد فوزي وفريد الأطرش وآسيا وجبرائيل نحاس وحسن رمزي كرر المنتجون فيها الشكوى من أجور الفنانين الذين قال المنتج فهمي داود "دي أجورهم بقت تكسر الوِسط".

ـ هل تعلم أن يوسف وهبي اختار لنفسه شخصية (حنجل بوبو) لينافس بها شخصية كشكش بك التي ابتدعها المرحوم نجيب الريحاني ولقيت من النجاح على خشبة المسرح ثم على شاشة السينما في فيلم (صاحب السعادة كشكش بك) الذي اختفى نيجاتيفه بفعل الإهمال أو ربما عمدا. وقد لقي كل من كشكش وحنجل من هجوم النقاد والكتاب الكثير، وبرغم ذلك نجح كشكش بيه نجاحاً دفع أكثر من فرقة إلى تقليدها، وعلى رأس هؤلاء كان عميد المسرح العربي الذي تحول إلى حنجل بوبو طلباً للنجاح.

ـ كلما وقعت هذه الأيام لفنان جميل مثل يوسف داود أو حسين الشربيني مأساة تتعلق بإهمال مساعدته على العلاج أو التنكر لتاريخه الفني، انبرى الجميع ليكتب عن هذا العصر الردئ الذي لايقدر فيه أحد الفن والفنانين، ويترحمون على زمن الفن الجميل الذي كان يعرف قيمة الفن والفنانين، بينما الجميع ينسى أن الزمن الذي يترحمون عليه هو الذي جعل كثيرا من الفنانين يهربون خارج مصر من الضرائب، وجعل بعض أجملهم مثل القصري وبشارة واكيم وزينات صدقي يموتون دون أن يسأل عنهم أحد، وجعل فناناً قديراً مثل محمد كمال المصري الشهير بشرفنطح يصبح في نوفمبر 1958 مأساة إنسانية كما وصفته مجلة (المصور) التي انهالت عليها الرسائل بين مستنكر لموقف النقابات الفنية من محنة نجم الكوميديا ومؤيد يبدي استعداده لمعاونة الفنان. ما نشرته (المصور) مشكورة أسفر وقتها عن حصول الفنان على معاش قدره عشرة جنيهات شهريا من معونة الشتاء، وعرض من الكاتب العظيم بديع خيري لشرفطنح بأن يعود للإنضمام إلى أسرة مسرح الريحاني بالقدر الذي تسمح به صحته وبالمرتب الذي ترتضيه كرامته.

الممثل الكوميدي محمد كمال المصري الشهير بشرفنطح
الممثل الكوميدي محمد كمال المصري الشهير بشرفنطح

ـ بمناسبة ظاهرة ذبح الفنانين للعجول قبل التصوير التي ينتقدها الكثيرون ويتخذونها دليلاً على إيمان الفنانين الآن بالشعوذة والدجل، ما قول هؤلاء في أن نفس الطقس كان يقام قبل تصوير أنجح وأشهر أفلام الأبيض والأسود، وما قولهم في حوار نشرته (الكواكب) مع الكومبارس صفا والذي كان يُعرف بأنه فاسوخة عبد الوهاب حيث كان عبد الوهاب "لا تتعرض له مشكلة مستعصية حتى يبعث في طلبه حتى يزول "العكس"، وقد حدث له مرة أن أعاد تسجيل أغنية عشر مرات وتذكر صفصف فسارع بطلبه لكي يسير التسجيل على مايرام، وكذلك كان الأستاذ أنور وجدي كان يدعوه ليجلس معه كلما اضطر لكتابة سيناريو، واتفق معه الكاتب صالح جودت على أن يزوره كل يوم في الصباح ليكون وجهه أول ما رآه".

ـ سألوا الفنان حسن فايق ماالذي يضايقك في الصيف فقال: " ليس هناك مايضايقني من الصيف إلا النساء فالصيف يسمح لهن بأن يرتدين ثيابا خفيفة تعد دليلا واضحا على تدهور الاخلاق والفضائل، واذهب إلى البلاجات ياصديقي لتعرف أنني لست متجنياً ولا حنبلياً أكثر مما يلزم".

....

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.