عن "زمن الغضب: تأريخ الحاضر"
يجمع الكاتب والروائي الهندي بانكاج ميشرا، صاحب كتاب "زمن الغضب: تأريخ الحاضر" الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة، في ثقافته بين الأصول الهندية والاندماج في الثقافة الغربية الإنكليزية.
في مثل هذه الحالة من الكتَّاب مزدوجي الثقافة، وعندما يتناولون قضايا في المنطقة الوسطى بين الثقافتين، عادة ما نجد أنفسنا بين ثلاثة نماذج "جلادان وحكيم". من يجلد أصوله، ومن يجلد حضارة الاندماج، ومن يقف في المسافة بينهما ونظره في الاتجاهين. طبعاً، ليس المهم هنا تصنيف الكاتب بين هذه النماذج، وإنّما معرفة أطروحاته في هذا الكتاب.
في الفصل التمهيدي يقول الكاتب عن عمله بأنه "يتناول الخلفية الثقيلة لبناء الأمم والتحوّل بوتائر متفاوتة من اقتصاديات إقليمية وزراعية إلى اقتصاديات صناعية وعالمية". كما أنه يصف أساساً "منظومة سلوك عقلي ونفسي رافقت انتشار مشهد الحداثة من الغرب الاطلسي إلى قلب أوروبا وإلى روسيا وإلى الشرق منها".
مع هذا التوصيف يمكن القول إنّ الكتاب هو محاولة للإجابة عن السؤال: لماذا نحن في هذا الحاضر المليء بظواهر العنف والإرهاب والحروب والنزاعات التي لم تترك مكاناً على هذه الأرض، وإن تفاوتت من مكان إلى آخر؟
في الإجابات المألوفة، وخاصة لدى الغربيين وأتباعهم عبر العالم، يقع التركز أساساً على الأسباب الداخلية لهذه الظواهر، وخاصة خلفياتها الدينية والقومية وغيرها، ولا يُلتفت إلى ما هو خارجي وعميق في الزمن.
في هذا العمل، يُدين الكاتب مباشرة التَّمَثُّل الغربي لمشروع الحداثة، هذا التمثّل الذي قاد إلى ثقافة ومنظومة قيمية مادية استهلاكية ربحية ونزعة فردية أنانية لا تفكر إلا في الذات، وهي التي كانت وراء كلّ الفوارق الشاسعة، على جميع المستويات، بين الدول والمجتمعات والفئات الاجتماعية. هذه الفوارق التي نشهدها اليوم، والتي تعود إلى بداية الحركة الاستعمارية الغربية (حسب الكاتب)، هي وراء "كل الاحباطات التي يشعر بها المهمشون الذين لم يجدوا ضالتهم في الحداثة كما تبلورت في العالم الغربي أولا، ثم انتشرت في العوالم الأخرى". وهو بذلك يدحض المقاربة التي تعتبر أنّ معضلات العالم تكمن أسبابها خارج الحداثة الليبرالية، أساسا على عاتق الإسلام وطبيعته العدائية المزعومة، وخاصة عند تناول ظاهرة الإرهاب. ويذهب الكاتب أبعد من ذلك عندما يعتبر أنّ حركات مثل القومية الثقافية والإسلام السياسي والإرهاب والفاشية تضرب جذورها كلّها في فكر التنوير نفسه.
يُدين الكاتب مباشرة التَّمَثُّل الغربي لمشروع الحداثة، هذا التمثّل الذي قاد إلى ثقافة ومنظومة قيمية مادية استهلاكية ربحية ونزعة فردية أنانية لا تفكر إلا في الذات
ومع جرأة هذه المقاربة التي تُخرج دول الجنوب من اتهام الذات، خاصة عند نشوء ظاهرة عنفية ما، فإنّ الاختلاف معها قد يكون في إعادة تلك الظواهر إلى فكر التنوير بنوع من الإطلاق، وهو ما فيه شيء من المبالغة بتقديري.
طبعاً لم يبن الكاتب موقفه من فراغ، فقد اعتمد منهجاً تاريخياً باستعادة ما نشأ من أفكار وما وقع من أحداث، وما تنبّأ به بعض المفكرين، وهم يلاحظون المسار غير السليم لتطوّر التمثّل الغربي للحداثة، وخاصة تلك الأحداث التي كان وراءها كتّاب وفلاسفة ومفكرون، كل ذلك بأسلوب يجمع بين السرد والتحليل وربط الأحداث بعضها ببعض، حتى لتبدو للقارئ كسلسلة مترابطة لتصوّر ما.
في هذا العرض القصير يمكن سرد بعض الشواهد اللافتة، منها:
(1): أحداث استيلاء الأديب الإيطالي، غابريالي دانونزيو، على مدينة فيومي على ساحل بحر الأدرياتيك، بتأثير نزعته القومية وحلمه بالاستيلاء على كلّ الاراضي التي كانت على مرّ العصور جزءاً من وطنه الأم إيطاليا. هذا الأديب نفسه أيَّد بحماس كبير الغزو الإيطالي لليبيا.
(2): مواقف الفيلسوف ورجل السياسة والمؤرخ الفرنسي أليكسي دو توكفيل الذي كان من دعاة خوض مغامرة كبيرة تجدّد طاقات الأمة الفرنسية، وكانت تلك مغامرة احتلال الجزائر سنة 1830.
(3): الجنرال جورج بولانجي (1837-1891) الذي قاد حركة شعبوية فاشلة في عيد الجمهورية الفرنسية الثالثة، مستغلاً اشمئزاز عموم الشعب الفرنسي من الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية حينها.
(4): بيان "الحركة المستقبلية" الذين صاغه الشاعر فيليبو مارينيتي سنة 1909 بقوله: "إنّنا نريد تمجيد الحرب، المنظف الأوحد للعالم، والنزعة العسكرية والقومية والفعل الفوضوي (اللاسلطوي) المدمر والأفكار الجميلة التي تستحق أن يموت المرء من أجلها، واحتقار النساء. إننا نريد هدم كلّ أصناف المتاحف والمكتبات".
مع هذه الشواهد التاريخية، يتناول الكاتب قضايا الحاضر والماضي القريب، من ذلك تخصيصه فصلاً بعنوان "تطهير المجال: منتصرو التاريخ وأوهامهم"، للردّ على الذين عبّروا عن نشوتهم بانتصار الليبرالية في مقابل الشيوعية مع سقوط جدار برلين، معتبرين أنّ العالم في اتجاه حلّ صراعاته مع نهاية الحرب الباردة، مُعدِّدا الأحداث التي اندلعت بعد ذلك وتنفي فكرة النهاية السعيدة في الحرب مع الشيوعية، مثل حروب التطهير العرقي في البلقان ورواندا وصعود أقصى اليمين والجماعات النازية في أوروبا، والجريمة العنيفة داخل الدول الغربية، وخاصة أميركا، وأبرز مثال على ذلك مقتل أكثر من مائة وخمسين أميركياً على يد جندي أميركي عائد من العراق هو "تيموثي ماكفيه". والمثير هو ما كتبه هذا الجندي في جريدة "مدينة صغيرة"، منذراً باقتراب الحاضر الغوغائي. ومما جاء في مقاله: "هل نشهد نمواً للعنصرية؟ من الأفضل أن تعتقد ذلك. هل إحباطات أميركا تجد متنفسّاً لها؟ هل هذه الإحباطات مشروعة؟ من يتحمّل مسؤولية هذا العبث؟ في زمن شهد فيه العالم انهيار الشيوعية كنظام قاصر عن تسير شؤون البشر، يظهر أنّ الديمقراطية تسير على نفس الخطى. ولا أحد ينظر إلى المشهد الكبير". تعكس هذه الكلمات حجم الشك في الليبرالية والإحباط من نتائجها التي قادت هذا الجندي إلى ارتكاب مجزرة في حق مواطنيه.
مثل هذا الموقف والسلوك يورده الكاتب عند عرضه لمشهد مقتل غاندي: "في مساء يوم 30 يناير 1948 بعد مرور خمسة أشهر على استقلال وتقسيم الهند ... كان غاندي يمشي قاصداً تجمعا للصلاة على أرض مسكنه المؤقت في نيودلهي عندما أُطلقت عليه من قرب ثلاثة عيارات نارية، أصابته في الصدر والبطن، وكان عمره حينها ثمانية وسبعون عاما. سقط ميتاً في الحين، وقد أضعفه صومه من أجل وقف أعمال القتل بين الهندوس والمسلمين". لم يحاول قاتله الفرار، بل ذكر لاحقاً أنه هو الذي بادر بإخطار الشرطة.
ما يحدث في العالم من ظواهر عنيفة له جذور في تجربة الحداثة الغربية، وهو ردّ فعل على ما خلفته الليبرالية من إحباطات
القاتل هو ناثرام غوتسه، وهو هندوسي من غربي الهند وكان من نشطاء جمعية المتطوّعين القوميين، وهي منظمة شبه عسكرية تجمع هنوداً من الطبقات العليا يناضلون من أجل إقامة دولة هندوسية عدائية. في جلسة محاكمته كرّر "غوتسه" أطروحاته، متهماً "غاندي" بإلحاق الضرر بالهند بمهادنته المسلمين وإقحامه في مجال السياسة مفاهيم لا عقلانية من قبيل صفاء العقل والوعي الفردي. فالسياسة في نظره لا تحكمها سوى المصلحة الخاصة للأمة والقوة العسكرية، واعتبر أنّ الانبطاح الدائم والواضح لغاندي أمام المسلمين لم يترك أمامه إلا خيار الاغتيال. وطلب "غودسه" من المحكمة ألّا ترأف به وصعد مستبشراً إلى المشنقة في نوفمبر/ تشرين الأول 1949، وهو ينشد أناشيد تمجد الوطن الحي، أرض الهندوس.
ومن مواقف مشاهير المثقفين، وخاصة في جانب التنبؤ بمآلات الليبرالية والحداثة الغربية. يورد الكاتب ملاحظات دوستويفسكي في 1864 عن الليبرالية الغربية عندما رأى "في لندن عالماً متوحشاً يسكنه بروليتاريون متضررون شبه عراة ومتوحشون وجياع، غرقوا في الفسق والكحول لينسوا يأسهم. وفي باريس رأى أن الحرية وُجدت لأصحاب الملايين، وأن المساواة أمام القانون إهانة شخصية للفقراء الذين يقفون أمام العدالة الفرنسية. أما الأُخوة فهي خدعة أخرى في مجتمع تحرّكه غريزة الفردانية والعزلة وشهوة الملكية الخاصة".
كما أورد أيضاً تنبؤ الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، بأنّ البشر سوف "ينتهي بهم الأمر إلى الانقلاب على العزلة التي يعيشونها في العالم الحديث ويرجعون يائسين إلى إلههم ليسترجعوا جهلهم وبراءتهم وفقرهم، والتي تظل الأشياء الوحيدة الثمينة في نظرنا والتي تمنحنا السعادة".
هذه بعض النماذج لأحداث وأفكار أوردها الكاتب بأسلوب سردي يشدّ القارئ ويشحنه بكم هائل من المعطيات المختلفة. كل ذلك ليقول إنّ ما يحدث في العالم من ظواهر عنيفة له جذور في تجربة الحداثة الغربية، وهو ردّ فعل على ما خلفته الليبرالية من إحباطات.
ويبقى السؤال: ماذا بعد في عالم كهذا؟ العالم الذي يُحبط كلّ أمل في النجاة منه! أيّة إيديولوجيا أو منظومة فكرية قادرة على التغيير في الاتجاه الصحيح؟ ربما التكنولوجيا تكون هي المنظّف القادم من كلّ هذا عندما تصبح الأرض مكاناً لسكن الروبوتات، ما يجعلنا بمواجهة سؤال: هل يمكن الاستغناء عن وجود الإنسان في يوم ما؟