عن رهانات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية
شكل التعدد اللغوي والتنوع الثقافي معطى طبيعياً يخترق أغلب المجتمعات إن لم نقل جميعها، ويشكل عامل قوة إذا جرى تدبيره وفق آليات مؤسساتية ديمقراطية ناجعة. كما قد يكون عامل ضعف إذا جرى تجاهله ولم يحسن تدبيره، ويفتح بذلك الباب أمام سيناريوهات معروفة عاشتها دول في أوروبا وأفريقيا.
أدركت الدولة المغربية خطورة الاستمرار في "الإنكار" لمعطى التعدد والتنوع لتداعياته السلبية على التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، ولهذا تفاعل الملك محمد السادس إيجابياً مع هذا الواقع من خلال التأكيد في أكثر من مناسبة على أن ثروة أي بلد لا تقاس فقط من خلال المؤشرات الاقتصادية، بل كذلك، وبالدرجة الأولى، من خلال "القوة الناعمة" التي يتوفر عليها، ومن خلال ما يتمتع به من استقرار وعراقة تاريخ، وغنى ثقافي وموروث حضاري.
وكان الاعتراف بالأمازيغية في أبعادها المرتبطة باللغة والثقافة والهوية والانتماء والحضارة والتاريخ محطة أخرى متقدمة في مسار ترسيخ التعدد اللغوي والتنوع الثقافي، ثم تطور الأمر إلى إقرار الحماية الدستورية والمؤسساتية لهذه التعددية في دستور المغرب سنة 2011، بل أكثر من ذلك، جرى التنصيص على المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كإطار دستوري مؤسساتي مهمته النهوض وحماية التعدد اللغوي والتنوع الثقافي.
لقد وضع المشرّع المغربي مسؤولية تدبير كل مكونات الثقافة الوطنية بيد المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كتجربة فريدة من نوعها في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لا سيما أن الهوية الثقافية المغربية الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
تم التنصيص على المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في دستور 2011، ولم تعرف المصادقة على مشروع قانونه التنظيمي إلا في سنة 2020
كما أبدع المشرّع المغربي في وضع هيكلة خاصة لهذه المؤسسة الدستورية في تدبيرها لكل المكونات الثقافية، وكذلك في تحديده أهداف هذه المؤسسة الضخمة والمرجعية بالنسبة للدولة في ما يتعلق ببلورة السياسات العمومية المرتبطة باللغة والثقافة.
وجرى التنصيص على المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في دستور 2011، ولم تعرف المصادقة على مشروع قانونه التنظيمي إلا في سنة 2020، أي بعد مرور تسع سنوات، شهدت نقاشا ساخنا سواء داخل البرلمان أو خارجه، حيث تتبعنا مرافعات قوية من قبل فعاليات ثقافية ولغوية وحقوقية حول الفلسفة والمرجعية والصلاحيات، وكذا الاختصاصات التي سطرت لها.
نعم، مرت اثنتا عشرة سنة على دستور 2011، ومن هذا المنطلق نتساءل عن أسباب عدم تفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة الذي أخذ منا جهداً كبيراً في التفكير والنقاش، لا سيما أنّ المغرب نجح بشكل ذكي في الحسم في مجموعات من الإشكالات الثقافية واللغوية الكبرى ضمن سياق ثقافي هادئ قاده بحكمة الملك محمد السادس، وجعل من بلادنا نموذجاً يحتذى به في المنطقة.
يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل مرة أخرى، لكن هذه المرة عن طبيعة مؤهلات النخبة القادرة على تدبير هذا "التعدد اللغوي والتنوع الثقافي" الذي يتسم به المجتمع المغربي، وكذلك ترجمة الأهداف الكبرى التي سطرت لهذه المؤسسة الدستورية الوطنية المستقلة المرجعية، وبالتالي التفعيل الديمقراطي السليم لمقتضيات هامة في مجال اللغة والثقافة جاء بها الدستور المصنف بكونه دستور الحقوق والحريات والهوية.
إن هذا الورش الاستراتيجي ذو صبغة ملكية، ولم يعد موضوع خلاف مجتمعي كما كان في السابق، ما يتطلب وجود نخبة متشبعة بقيم التعدد والتنوع والاختلاف، وقادرة على الانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر، بمعنى أكثر وضوحا نخبة مؤمنة بأهمية وقيمة هذا المشروع الطموح.
كما أن الرهانات المنتظرة من المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كبيرة بحجم الوظائف المسطرة لها أو أكثر، لا تقتصر فقط على دمقرطة الشأن الثقافي وإقرار عدالة لغوية، بل البحث عن خطط عملية لاستثمار التعدد والتنوع بشكل إيجابي ضمن سياسات عمومية منسجمة تقطع مع عقلية التخبط والارتجال، وعدم الوضوح وقصر النظر، التي عشناها لسنوات في مجال السياسات اللغوية والثقافية، وكذلك إيجاد حلول واقعية لمواجهة التحديات الثقافية المرتبطة بالألفية الثالثة في ظل زحف، بل تغول العولمة الاقتصادية وتأثيراتها على الممارسات الثقافية واللغات المحلية والهويات الوطنية.
إن المغرب نقطة التقاء بين الثقافات والحضارات، شكل موقعه عبر التاريخ كجسر بين أوروبا وأفريقيا وبين الشرق والغرب عاملاً مساعداً لتكريس التعدد والتنوع، وهو ما انتهى به إلى ضمه بكل وضوح في الوثيقة الدستورية للمملكة المغربية.