عن حسيب كيالي وحميدة نعنع وكبّة بالصينية

07 فبراير 2023
+ الخط -

كان ذلك في أوائل ربيع عام 1993 قبل ثلاثين سنة من الآن، وكنتُ قد هاتفتُ أديبنا الكبير ابن مدينة إدلب حسيب كيالي، المُقيم في مدينة دبي، فقال لي: "مليح أنك اتصلت بكير، تعال وعجّل قبل أن أنشغل بقضية ما، أنا في انتظارك".

المسافة بين "أبوظبي" التي أعمل فيها "معلم بناء عام" في شركة سيف بن درويش، وبين "ديرة دبي"، حيث يسكن حسيب كيالي في بيت على حساب الإذاعة والتلفاز مُراقباً للنصوص والبرامج ومقدّماً لها، وهو الذي يحتاج إلى مُراقبة على حدّ تعبيره؛ كانت بين المدينتين في حدود مئة وثلاثين كيلومتراً، قطعتها الحافلة العامة في أقلّ من ساعتين، وبذلك وصلتُ في ضحوة النهار. 

بعد أن رحّب بي وعاتبني لقلّة زياراتي، سألني ونحن ما نزال على عتبة باب البيت: "هل تعرف نعيمة زعفران"؟ قلت: "ومن تكون نعيمة زعفران حتى أعرفها، هل هي من إدلب؟". قال: "حزرت، هي من إدلب، ومن إحدى أزقتها القديمة". قلت: "هل تقصد بنت إدلب "حميدة نعنع" الكاتبة العالمية التي تزوّجت فرنسياً، وتعيش في باريس؟". قال: "هي". كان يُمازحها عبر الهاتف، فيقول: "اتركي هذا الفرنساوي يا حميدة لا هو من ثوبنا ولا هو من ملتنا، وتعالي إلى دبي تزوّجي من ابن مدينتك وعيشي معه بثبات ونبات حتى يُخلّف (إن شاء الله) طرشاً من الصبيان والبنات". قلتُ: "أطلقتَ عليها لقب "نعيمة زعفران" لابق عليها على كل حال، لابسها لبس". قال: "تفضل، أهلاً وسهلاً برائحة الأهل".

رحبت بي أخت حسيب كيالي ترحيباً جميلاً وهي مقيمة معه وتكبره في العمر، وكانت تقرأ في كتاب فسألتها: "ماذا تقرأين؟". قالت: "هي مجموعة قصصية اسمها "نعيمة زعفران" صدرت حديثاً في سورية، وقد وصلتنا قبل أيام عدّة نسخ إلى البيت بالبريد. وها هي... قلّب صفحاتها ولكن لا "تُخربطها" حتى لا أعود للقراءة من أول صفحة".

 قال حسيب كيالي موضّحاً: "هي تُضيّع الصفحات التي وصلت إليها في القراءة دائماً؛ لذلك تضع علامة واضحة بين الصفحات، وإن ضاعت هذه العلامة، لا بد أن تبدأ في القراءة من أوّل صفحة في الكتاب. وهذه نسخة هدية لك خبأتها حين هاتفتني". فتحتُ على صفحتها الأولى، فكانت خالية من الإهداء بخط حسيب كيالي. فقلتُ: "أين الإهداء؟". فقال: "وهل من الضروري ذلك، هات وأمرنا للّه". وكتب: "الأخ العزيز عبد الرزاق دحنون مع محبتي وتقديري، يوم الجمعة 19 مارس/ آذار 1993".  

أدرك الكاتب حسيب كيالي قيمة الكلمة المكتوبة، فاستعملها برهافة مبضع جراح، محلّلاً أكثر قضايا الوجود البشري الخالدة

في تلك الأيام كانت أخت حسيب كيالي في حيطان الثمانين، وما زالت تقرأ وتكتب وتطبخ أكلات لذيذة تعلّمتها في مدينة إدلب وتعمل قهوة من "أطيب" ما يكون. وفي أول زيارة قمتُ بها لبيت حسيب كيالي في دبي يوم الجمعة 15مايو/ أيار 1992، وكانت زيارة تعارف، ناديتها أثناء الحديث بلقب "يا حجي"، على عادتنا في مدينة إدلب، فقالت لي موبخة ومُعنّفة: "من أولها أهونها، لا تُناديني بهذا اللقب مرّة ثانية، لا أحبه". ومن ثمّ تصادقنا وصارت تحكي لي عن إدلب أيام زمان، وأنا أحكي لها عن حاضر إدلب وأهلها. 

لفتت نظري طاولة حسيب كيالي المُرتبة، حيث تجد عليها أوراقاً من مختلف الألوان ودفاتر مدرسية مخطوطة وأقلام رصاص مُهذبة مبريّة برياً حسناً وقلم حبر "شيفر ميديوم" الذي يكتب بسلاسة، وكأنه ينضح من "زبدة" عرب. قلتُ: كأنك كنتُ تُجهّز نفسك للكتابة؟ قال: نعم، وقطعها هاتفك. ثمّ التفت إلى أخته، قائلاً: ماذا سنأكل في الغداء على شرف ضيفنا عبد الرزاق؟ قالت دون تردّد: "كبّة بالصينية. وفعلاً كانت ألذّ كبّة بالصينية أكلتها في حياتي". 

اسمحوا لي أن أقول بضع كلمات أخرى عن الأديب السوري حسيب كيالي رحمه الله، وأطرح هذا السؤال. أين تكمن قوة أدبه وكيف يأسر مريديه؟ من الصعب الجواب عن هذا السؤال على نحو مباشر، ولا أريد التعمق به كثيراً، لأنّ حقل أدبه واسع فسيح، وقد رأيتُ عنده أكثر من عشرة دفاتر مدرسية ما زالت مخطوطة فيها الشعر والقصة والمسرحية. ولكني أقول بشيء من التبسيط: أدرك حسيب كيالي قيمة الكلمة المكتوبة فاستعملها برهافة مبضع جراح، ويبدو أن ذلك هو ما يحبّبه إلى مريديه ويجعله أثيراً لديهم. كان يتأمل من غير تعقيد، ويعبّر بالصورة الفنية المدهشة عن قيم أهله وبلده، محلّلاً أكثر قضايا الوجود البشري الخالدة، أي أنه تمكن من العثور على لبّ مادة الفن الحيّ: كيف يجب أن يكون الإنسان الحقيقيّ، وما هي رسالته السامية، وما هو مغزى حياته؟ تلك هي القضايا البسيطة والخالدة التي شغلت بال حسيب كيالي، ولا تزال تشغل بال الأجيال في مختلف العصور. ولكي يردّ على هذه الأسئلة تعيّن عليه أن يفضح بأكبر قدر من الحدّة والشجاعة، الشرور والغدر والخسة والتسلط والاستبداد. 

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.