عن العنف المفرط في دراما رمضان
لطالما كانَ العنف جذّاباً، منذ مسرح وليم شكسبير، مروراً بأفلام ألفريد هيتشكوك، وانتهاءاً بسينما كوينتين تارانتينو. فالأخير، مثلاً، من أبرز المدافعين عن العنف في الفنّ. وعلى الرغم من العنف المفرط في أفلامه، يعرف تارانتينو كيف يكسر جديّة العنف بالعَبَث، محوّلاً ما يُفترض أنّه مأساة إلى ملهاة، فالعنف في سينماه استثمار للمُتعة. وهذه وجهة نظر لا يشعر تارانتينو بالحَرَج من الدفاع عنها.
وفي المسرح، كثيراً ما يحظى العنف على الخشبة بالنجاح، ففي مسرح شكسبير، يبدو العنف مجانيّاً في "تيتوس أندرونيكوس"، وهي المسرحيّة التي أسّست لشعبية شكسبير.
وكأنّ شكسبير أراد فيها مسايرة الموجة، وإرضاء هوس الجمهور بالدماء. ورغم نجاحها الجماهيريّ، تبقى أضعف مسرحياته. حيث تغرق الشخصيات بانتقامٍ عبثي، وفيها يفعل شكسبير ما يفعله الكثير من الكتّاب الشباب، بالذهابِ إلى الصدمة، لاقتحام مشهد تنافسيّ وفق صيغةٍ مضمونة للنجاح. فإذا كان العنف استثماراً ناجحاً في السينما والمسرح، فلماذا نُعيب على الدراما الاستهلاكيّة ذهابها إلى العنف المفرط؟
دراما تحت الطلب
مُشاهدة العنف تخلق تطبيعاً بين المشاهد والعُنف الذي يراه على الشاشة
أعطِ مُشَاهدك جرعةً زائدة من العنف، خاطب غرائزه، لعلّك تُسيل لُعابه لإكمالِ المشاهدة. وفي كلّ مرّة تجد الأفق مسدوداً أمامك لتُكمل الثلاثين حلقة، أدخل شخصيات تصنع المزيد من العنف، وأغرق الجميع في دوامته.
وفي محاولتك لجعلِ الحوارِ حيويّاً، اجعل الشخصيات تتحدّث بلسانٍ واحد، بمفردات واحدة، كما لو أنّها مستنسخة. واجعل العنف خفيفاً عبر تصدير شخصيات "تتظارف" طوال الوقت، وتصدّع رأس المُشاهد بعشرات الإفيهات واللازمات، التي باتت مبتذلة، ولا تتجاوز كونها استعراضًا يذكّرنا بدراما "الشبريات".
وفي الطريقِ إلى تحقيقِ ما سبق، لا أهمية لعدد الصُدف والأحداث التي سيكون عليك افتعالها لتُكمل ما بدأته من فوضى. وبهذا الأسلوب، ستصنع عملاً مُرضياً لمحطاتِ العرض وشروط السوق التي تريد إثارةً لا تتوقّف، وإن كانت لا تتلاءم بشكلٍ من الأشكال مع دراما الواقع، التي يدّعي صنّاع الأعمال مقاربته. إنّه اللُهاث خلف دراما تحت الطلب، محض استهلاكيّة، لا تهتم إلا بشروط السوق. والنتيجة، أعمالٌ متطرّفة لا تهتم بما هو أبعد من التريند.
العُنف بين كونه "متّكأ" أو "ورطة"
عندما سُئل أحد كُتّاب المسلسل السوري "ولاد بديعة" في إحدى المقابلات التلفزيونيّة عن العنف المفرط في العمل، تحدّث عن "العلاج بالصدمة"، وأوحى بأنّ الفوضى في مشروعه الدراميّ منظّمة، والعنف مبرَّر، وهدفه تعريض المشاهد لجرعات عالية من العنف، تخلق لديه استفاقة أو وعياً أكبر بما يجري حوله.
لكن، وبالنظر إلى مآلات العمل وشخوصه، يغرق العمل بالاستسهال، فيعتصم بالعنف كحلٍّ سهل، فلا تنمو الشخصيات أو تتطوّر بما يُوحي بمشروع دراميٍّ منظّم، بل تنغمس في دوامةٍ من العنف. وتشعر بعد النصف الأوّل من العمل بأنّ الشخصيات اغتربت عن نفسها، وباتت تتحرّك وتتصرّف بعيداً عن كلِّ ما أسّس له العمل عنها في ثلثه الأولى. أمّا الشخصيات الثانوية، فتظهر وكأنّها مجرّد "استبنات" يجرى إقحامها لملء ساعات العرض التلفزيوني. هكذا، يبدو العمل ضائعاً، فانتازيّاً بحتاً، تسبح جميع شخصياته في عوالم الشّرّ والجريمة والعنف والانتقام. لكن، إصرار صنّاع العمل على واقعية النص مقابل ما نُشاهده من فانتازيا بحتة، ومجانيّة، يجعل العنف وقد تحوّل من متّكأ لطرحٍ واقعي إلى ورطة، ويجعلنا نتساءل كمشاهدين حول رؤية صنّاع الدراما لما يُسمّى "الواقعيّة".
العنف بين المُتعة والتأثير
في شهادات بعض القتلة المُدانين بقضايا قتلٍ واغتصاب ممن ظهروا على الشاشة في برامج الجرائم والتحقيقيات الجنائية الأميركية الشهيرة، يُلاحظ إدمانٌ لدى غالبية هؤلاء على مشاهدة المحتوى العنيف (الجنسيّ والجسديّ). وبحسب تقييم الطب النفسي، يظهر لدى هؤلاء استعداد وميل للعنف، وقد حفّزت مشاهدة العنف الرغبة في تنفيذه إذا ما توافرت الفرصة.
مداومة التعرّض للمحتوى العنيف الذي تعرضه الشّاشة، يخلق لدى المشاهد إحساساً بأن العالم الذي يراه في التلفزيون ما هو إلا صورة مماثلة عن الواقع الذي يعيش فيه
فمُشاهدة العنف تخلق تطبيعاً بين المشاهد والعُنف الذي يراه على الشاشة. ومع زيادة جرعة العنف التي يستهلكها، تتراجعُ وتيرة الخوف، ويزداد إحساس المرء بالإثارة والمتعة في كلّ مرّة يشاهد فيها عنفاً. إنّها القدرة على مشاهدة العنف دون الحاجة لأن تكون لك ردّة فعل تجاهه، وهذا بالضبط ما يخلق إحساساً بالمتعة.
وعما إذا كان العنف سلوكاً متعلّماً، يجيب البروفيسور روبرت ديورانت، في بحثه الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2000، عن قسم طب الأطفال في جامعة "ويك فوريست" بولاية كارولينا الشماليّة، بأنّ هناك رابطاً قوياً بين التعرّض للعنف على الشاشة واستخدامه من قبل المراهقين.
العلاقة بين عنف الشّاشة وزيادة السلوك العدوانيّ
في كتابه "فنّ الشعر"، يأتي الفيلسوف أرسطو على ذكر "التطهير"، وفكرة التطهير المشتقة من نظريته تفترض أنّ الإحباط والعنف اللذين يتعرّض لهما الإنسان يومياً يزيدان من ميله للعنف، ويمكن إشباع هذا الميل للعنف بمشاهدةِ العنف. ووفقاً لهذه النظريّة، فإنّ مشاهدة العنف قد تقلّل من حاجة الإنسان لتطبيقه في الواقع، وهو ما نسميه بالعربيّة الدارجة بدور الدراما كوسيلةٍ للتنفيس. فيما تناقض "نظرية الاستثارة" الرأي القائل بكون العنف في الشّاشة سبباً للسلوك العدوانيّ، فالشخص العدوانيّ يبحث عن المحتوى العنيف، ويستهلكه. وتخلص النتائج التي جمعها الباحث جوزيف كلابر إلى "نظرية التدعيم" التي تفترض أنّه لا يمكن الحديث عن تأثير مباشر للتلفزيون إلا على الأشخاص ذوي الميول العدوانيّة. فالعنف على الشّاشة يميل إلى تدعيم ما هو موجود من استعداد للعنف لدى الفرد، لا لتغيير ما هو قائم.
وعلى العكس، تفترض نظرية "الغرس الثقافيّ" أنّ التلفزيون يزرع بمهارة، ومع مرور الوقت، مفاهيم المشاهدين للواقع، بل ويؤثّر على ثقافتهم كلّها، لأنّ عملية الغرس، كما يجدها الباحث الأميركيّ جورج جينر، هي نوع من التعلّم العَرضي. وبالتالي، فإنّ مداومة التعرّض للمحتوى العنيف الذي تعرضه الشّاشة يخلق لدى المشاهد إحساساً بأنّ العالم الذي يراه في التلفزيون ما هو إلا صورة مماثلة عن الواقع الذي يعيش فيه.