عندما غنى وديع الصافي في حلب
بعد انقطاع دام حوالي ستة أشهر، اتصل بي صديقي أبو سعيد من إدلب، وأخبرني أنه أُعجب بتخصيصي تدوينتين، في "إمتاع ومؤانسة"، للشعر الغنائي، وراقت له الأمثلة التي قدمتُها من شعر عبد الرحمن الأبنودي، ومرسي جميل عزيز، وجوزيف حرب، وقال إنه، وهو يقرأ التدوينتين، توصل إلى فكرة جديدة، مفادُها أن الأغاني التي نسمعها اليوم لا يمكن أن يَخرج المرءُ منها بجملة شعرية واحدة ذات قيمة، أو بلحن يستقر في وجدانه.. فما السبب؟
أجبته قائلاً:
- أهلاً أبو سعيد.. من خلال متابعتي لعصر النهضة الغنائية العربية التي تركزت في مصر، وكان لها وجود لا بأس به في بغداد والموصل ودمشق وحلب، وجدتُ أن هذا العصر العظيم انتهى في أواخر السبعينات من القرن العشرين. فبعدما رحل معظمُ أعلام الغناء والطرب والشعر الجميل، بدأ الغناء الجيد يختلط بالرديء، والحابلُ بالنابل، ورحل مع أولئك العباقرة القسمُ الأكبر من "السميعة" الرائعين، وظهر أناس يسمعون (بأعينهم) لا بآذانهم، كما يقول الموسيقار حلمي بكر، وظهر فن أطلق عليه بعضُ النقاد اسم "اللامعقول"، ما جعل الموسيقارَ عبد العظيم عبد الحق يتساءل:
- إزاي نسميه فن وهوّ مش معقول؟!
وقال الموسيقار حلمي بكر، في إحدى مقابلاته، إن المطربة، أيام زمان، قبل أن يحين موعد ظهورها على المسرح، كانت تقول: يا الله، أقوم ألبس. وأما الواحدة من مطربات اليوم فتقول، قبل بدء تصوير الفيديو كليب: يا الله، أقوم أقلع!
- جميل جداً. ولكن ماذا تقصد بأنهم يسمعون بأعينهم؟
- قصدتُ أن السميعة الذواقين، الذين يتلذذون بالطرب الأصيل، قل عددُهم في هذه الأيام، وتغيرت ظروف التواصل بين المطرب والسَمّيعة، ففي عالم "السوبر كليب" ينشغل كيانُ المتفرج بما يرى أمامه من حركات ووضعيات مغرية يقوم بها المطرب، أو المطربة، وهذا يُنقص اهتمامه بالصوت، وأنا أعرف سميعاً من مدينة إدلب كان يحب محمد عبد الوهاب، ويشترط أن يَسمعه من الراديو، أو المسجلة، حصراً، وهكذا يكون تركيزه على الصوت فقط، ومن عادات ذلك السميع (الوهابي) أنه لا يصغي لأية أغنية لعبد الوهاب يعود تاريخُها إلى بعد سنة 1950، حجتُه في ذلك أن صوت عبد الوهاب بعد هذا التاريخ بدأ يتراجع.
- أنت تقصد المرحوم أبو عمر.
- نعم، وقد كان من أعز أصدقائي، وحكاياته مع أغاني عبد الوهاب تستحق أن تروى، أو أن نخصص لها مساحة كافية.. ولكن؛ دعنا الآن نستكمل فكرتنا عن السميعة. أنا أرى أن الأغاني التي تُظهر إمكانات المطرب الصوتية هي تلك التي كانت تُقَدَّم على المسرح، فالجمهور في هذه الحالة تكون له قيمة، تتجلى قيمتُه في الشغف لسماع هذا المطرب تحديداً، بدليل أن الواحد يشتري بطاقة من حر ماله، ويذهب إلى المسرح بأبهى ثيابه، ويجلس ليصغي إليه، فإذا اكتفى مطربُه المحبوب بتقديم أغنيات قليلة يبدأ بالصياح: ما صار ما صار. هل تعرف حكاية وديع الصافي مع جمهور مدينة حلب؟
- لا والله.
- أبو محمد، صباح فخري، الذي أطلقتُ عليه لقب (القلعة الثانية)، دعا صديقه الرائع وديع الصافي لزيارة حلب، وعندما أكد وديع الدعوة بدأ التحضير لحفلة غنائية مشتركة بينهما، وفي الحفلة، ولأن وديع الصافي كان ضيفاً على المدينة، طلبوا منه أن يغني في أول السهرة.. وما حصل أن وديع غنى باقة من أغانيه الرائعة، وحينما أراد أن ينزل اشتعلت الصالة بالصياح والتصفير وعبارة "ما صار". فقال لصباح:
- شو يعني "ما صار" خيي أبو محمد؟
فقال: أهل حلب، يا أبو فادي، عندهم مثل شعبي يقول ما معناه: إذا أطعمتَ أَشْبِعْ، وإذا ضربتَ أَوْجِعْ.. يعني إذا غنيتَ لهم يجب عليك أن تُشبع توقَهم لسماع أغانيك. على كل حال أنت استرح، وأنا أعرف كيف أتعامل معهم.
صباح فخري، كما تعلم يا أبو سعيد، هو محطم الأرقام القياسية في الوقوف على المسرح، والغناء ساعات طويلة، وقد أصبح اسمه مسجلاً في موسوعة غينيس منذ عام 1968، عندما غنى واقفاً على قدميه، في مدينة كاراكاس بفنزويلا، عشر ساعات متواصلة، وأنا هنا سأقدم لك معلومة إضافية قد لا تكون أنت وكثير من القراء يعرفونها.
- ما هي؟
- إذا كان صباح فخري غنى عشر ساعات، فهذا يعني، تحصيلاً لحاصل، أن الجمهور استمع لغنائه عشر ساعات، ويستحق، أعني الجمهور، الدخولَ في موسوعة غينيس أيضاً!
ضحك أبو سعيد وقال: لو أنهم أرادوا تسجيل أسماء الجمهور في الموسوعة، قد لا يتسع لهم الدفتر. المهم، يا أبو مرداس، أنا متفق معك حول أهمية الشعر الغنائي، وأن فيه صوراً شعرية جميلة، ولكن هناك نماذج رديئة، مثل أغاني علي الديك.
- أنا سأختلف معك في هذه النقطة، فأغاني علي الديك، برأيي، ليست رديئة، وفيها أجواء شعبية فلاحية جميلة.. وأنا أسأل، أو بالأحرى أتساءل: لماذا نقبل من سيد درويش، مثلاً، أن يغني للفلاحين، والنجارين، والسقائين، والحشاشين، وتجار العجم، ومختلف العاملين في المهن الحرة، ونستنكر أن يغني علي الديك عن الحاصودي، والمرأة التي (تقمقش الحطب)، وبزوغ الصباح، وإيقاظ الفلاح ليذهب إلى الحصاد؟
لاحظت أن الدهشة ترتسم على وجه أبو سعيد، وقال:
- يبدو أن الحق معك.
- نعم. مرت علينا فترة من الزمن كنا نستهزئ بأغاني فؤاد غازي، ونقول عنه "فؤاد فَقْرُو"، ولكننا اليوم نتذكر أغانيه ونحبها، ونرددها في أعراسنا، وَمن كان متخصصاً بالموسيقا يمكن أن يتحدث عنها أفضل مني، ويكتشف فيها قيمة لحنية معينة.. ولكن السؤال المنطقي هو: ما العيب في قول فؤاد غازي: ما ودعوني ما شافوا عيوني؟ أو قوله لحبيبته:
جَدُّولاتك مجنونة وقلبي درويش
متل الضايع خلوني ما بعرف ليش؟
- أنا أحب فؤاد غازي من قبل. ولكنني، في العادة، لا أنتبه لما تسميه أنت "جمال الكلمات".
- هذه النقطة بالذات فيها قول كثير. وسأكتفي الآن بالإشارة إلى إن أجمل الأغاني قيلت في الجدايل، وأبرزها جاءت على لسان سعيد عقل الذي يقول:
يارا الـ جدايلها شقر
الـ فيهن بيتمرجح عمر
وكل نجمة تبوح بسرارا
وأما وديع الصافي فيسميها الضفاير، ويغني:
يا أم الضفاير حلوة والجبين العالي
مضوي جمالك مضوي مشعشع في الليالي
(للحديث صلة)