عقل الخروف

04 مايو 2024
+ الخط -

أردنا أن نأكلَ شيئًا، صديقي وأنا، فقصدنا ذلك المطعم الصّغير الراكن في الزّاوية، وجلسنا في الدّاخل. السّقف واطئٌ، وهناك باقة أزهار بلاستيكيّة فوق كلِّ طاولة. 

لا زبائن سوانا في تلك السّاعة المبكّرة من الصّباح، سوى قطّةٍ نائمةٍ فوق كرسيّ في وضعِ نصف دائرة. سألت صديقي: ماذا سنأكل؟ أجابني بسرعة: عقل الخروف. بدا لي كلامه غريبًا، فسألته بملامح متعجّبة: ماذا تقصد بعقل الخروف؟! 

وضع سبّابته فوق صدغه، ثانيًا أصابعه الأخرى بحيث بدا كشخصٍ سينتحر بمسدّس، ليوضّح لي قصده. فهمتُ أخيرًا. خاطبته: أنت تقصد مُخَّ الخروف؟ 

حرّك رأسه إلى أعلى وإلى أسفل ثلاث مرّات موافقًا، وعلى وجهه ابتسامة غير ذات معنى. أضفت: إذن قل مُخَّ الخروف وليس عقل الخروف! فالخرفان بلا عقل، وإلاّ لما كانت لها قرون.

تطوّع وصفّق كي يلفت انتباه النّادل. جاء النّادل حازمًا خصره بوزرةٍ بيضاء عليها آثار دم باهتة. قال له صديقي محرِّكًا يديه في الهواء، وكأنّه يرسم صحنًا: أطبخ لنا مُخَّ الخروف، أربعة أمخاخ، وسلاطة كبيرة في صحن واحد، وإبريق شاي كبيراً بالنّعناع. قالها واستدار ناحيتي لأوافق على النّعناع وليس "الشِّيبة" مثلًا أو "اللّويزة". وافقتُ بتحريك رأسي، وقلت للنّادل: أحضر لنا "مرمدة" من فضلك. 

بعد دقائق، بدأ بوضعِ الصّحون فوق الطّاولة بدأبٍ مصطنع كي ننفحه بقشيشًا. كنت قد دخّنت سيجارتين، والقطّة نامت الآن في وضعيّةِ شبه منحرف، وصديقي حادث أمّه في الهاتف. طلب منها ألا تقلق بشأنه لأنّه يأكلُ جيِّدًا، وينام جيِّدًا، وعمله مُربح، وسيُرسلها ذات يومٍ إلى الحجّ، وطلب منها أن تشرب دواءها في وقته، فدعت له بينما كان هو يقول فقط: آمييين، آميييين، آميييييييين كشخصٍ انتهى للتّوّ من الصّلاة.

وضعَ النّادلُ صحن السّلاطة أوَّلاً، ثمّ أحضر الصّينيّة التي يتوسّطها إبريق ضخم، مُحاط بكأسين كدجاجةٍ تحضن كتاكيتها غير المرئيّة تحتها وكتكوتان يلعبان أمامها. طلب منّي صديقي أن أفرغ الشّاي في الكأسين لأنّني كما يزعم دائمًا أتقن هذه العمليّة كشيخِ قبيلةٍ. الكسل والتقّاعس عن حمل الإبريق وإفراغ الشّاي في الكؤوس هو ما يجعله يقول ذلك. في الغالب حين يبدأ شخص بمدحك هكذا دون مناسبة يكون يمهّد في أعماقه لأن يطلب منك سلفًا أو خدمة عسيرة. 

أحضر النّادل خبزتين، ساخنتين، مقطّعتين إلى أربعةِ أنصافٍ متساويةٍ في سلّةٍ بلاّستيكيّةٍ صغيرةٍ زرقاء كسلّة تنشيف أواني المطبخ، ثمّ أخيرًا وضع صحن عقول الخرفان المتبّل جيِّدًا فوق الطّاولة والبخار يتصاعد منه حتّى يصطدم بالسّقف لينتشرَ في كلِّ الاتّجاهات، ناشرًا معه داخل المحلّ كلّه، وخارجه أيضًا، رائحة شهيّة سيسيل لها لعابُ المارّة، فيفكّرون في الدّخول إلى المطعم.

حين يبدأ شخص بمدحك هكذا دون مناسبة يكون يمهّد في أعماقه لأن يطلب منك سلفًا أو خدمة عسيرة

قلنا: باسم الله، وأتينا على الصّحن في دقائق معدودة. لم نتكلّم أثناء الأكل، كنّا فقط نمضغ ونحدّق ببلادةٍ في الطّاولات الأخرى والكراسي الفارغة، ونحن نُصغي إلى أغنيةٍ حانيةٍ أتتْ من المذياع المعلّق قرب باب المحلّ ليمسكَ "الأنتين" الإشارة، تقول: وْقْتَاشْ تْغَنِّي يَا قَلْبِي إِلَى مَا غَنِّيتِي الْيُومْ؟ وْقْتَاشْ تْغَنِّي يَا قَلْبِي إِلَى مَا غَنِّيتِي الْيُومْ؟ (متى ستغني يا قلبي إن لم تغن اليوم)..

جاءت القطّة، قذفنا لها قليلا من المُخّ وكثيرًا من الخبز، ونحن نأكل ونرتشف الشّاي حتّى تلطّخت حوافُ الكأسين بالإدام. كنت أشمّ رائحة مرق كلمّا قرّبتُ الكأسَ إلى فمي. 

مَسحنا الصّحن عن آخره حتّى بدا كأنّه نظيف. ثمّ أشعلتُ سيجارةً وقدّمت لصديقي واحدة، دافعًا العلبة مفتوحة أمامه في الهواء كما يفعلون في الأفلام. أخذنا نتحدّث قليلاً، نتحدّث وندخّن ونرتشف الشّاي لنهضم، بينما جاء النّادل وجمع الصّحون ومسح الطّاولة بإسفنجة. 

خرجت القطّة من الباب بكسلٍ محرّكة عجيزتها، يمينًا وشمالاً، مادّةً ذيلها كلّه إلى أعلى، كيدٍ متسوّلة.

خرجنا وتمشينا طويلًا قبالة ساحل البحر الهادئ والنوارس تضج هنا وهناك. كان صديقي يضع قبّعةً أنيقةً بحافةٍ دائريّة كقبّعات الكاوبوي، حين استدار ناحيتي، مندهشَا دهشةً عظيمة، وفاتحًا فمه وعينيه كأنّه رأى شبحًا، قبل أن يقهقه بصوتٍ عال، وهو يشير بإصبعه في اتّجاه رأسي. صرخت فيه بقلق: ما بك؟

قهقه أكثر، وهو يقول والكلام يخرج من فمه مُغَمْغَمًا بسبب الضّحك: قُرُوووونْ قُرُوووووونْ! 

قاطعته بغضب: عن أيّة قرون تتحدّث؟ هل جننت؟!

أجابني، وقد توقّف فجأة عن الضّحك وتحوّلت ملامحه إلى الصّرامة الكاملة، وأصبحت نظرته جِدِّيَّةً للغاية ومرتعبة: قُرُوووونْ، نبتت في رأسك قُرُوووونْ، قرووونٌ صغيرة يا صديقي. أقسم لك.

تلمّست رأسي بسرعةٍ وهلعٍ، وجدتُ قرنين صغيرين طول كلّ واحد منهما أربعة سنتيمترات على الأقلّ! أخذت أتفحّص رأسي كيفما اتّفق، وقد امتلأتْ نفسي برعبٍ غريب. صرخت فيه: يجب أن أذهب حالاً إلى المستشفى. قال بشهامة: سآتي معك يا صديقي، لن أتركك، لن أتركك. 

هرولنا بسرعةٍ في اتجاه الشارع وأنا أحاول أن أخفي القرنين بيديّ وقلبي يخفق بقوّة وريقي قد جفّ.

أشار صديقي بيده لِتَاكْسِي ليقف صارخًا: تاكسييييي.. تاكسييييييي.. ثمّ ركضنا بسرعة لنلحق التّاكسي الّذي ركن مُلصقًا عجلاته بالرّصيف. نزع صديقي قبّعته من رأسه وقدّمها لي لأخفي بها القرنين.

وحين دخلنا إلى التّاكسي، صَفَقَ الباب بقوّةٍ، وقال للسّائق بلهفة: المستشفى، المستشفى، المستشفى من فضلك، بعجالة. 

وبينما بدا السّائق هادئًا جدًّا غير عابئ بما يحصل في العالم، استدرت لأسأل صديقي عن كم سيستغرق التّاكسي من الوقت كي يصل، وهو يقول لي: لا تخشَ شيئًا، ستكون على ما يرام، ستكون بخير، فلمحت على رأسه قرنين طولّ كلّ واحد منهما عشرة سنتيمترات على الأقلّ.

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.