عصيان استهلاكي

31 مارس 2023
+ الخط -

لم يعد الأمر محتملاً. فموسم شهر الصوم تحوّل من كونه موعداً لإطلاق الإنتاج الدرامي العربي الجديد، إلى موسم إعلانات، باتت لغزارتها، وطول دقائقها، ومقاطعتها السمجة لمتعة المشاهدة، لا تطاق. 

هكذا، وبعد أن تتكل على الله وتختار ما تريد مشاهدته من بين عشرات المسلسلات الجديدة، إذ بك تتابع مسلسلاً آخر تماماً: إعلانات الموسم. وهي إعلانات يفوق طول الواحد منها أحياناً الدقيقتين، وفوق ذلك تتعاقب، ليصل عددها أحياناً إلى أكثر من عشرة إعلانات في "الفاصل" الواحد، حتى يكاد المسلسل أن يكون هو الفاصل الإعلاني، وليس العكس. 

وفضلاً عن السؤال المتجدّد عن حكمة إطلاق هذا الكمّ من المسلسلات في شهر واحد، بدلاً من توزيعها على مدار السنة، وبالتالي إعطائها حقها من انتباه المتفرج، هناك أسئلة كثيرة تُطرح حول سبب هذه الاستباحة الإعلانية للمشاهد، ومدى معرفة أو مجرّد اكتراث القناة لهذا الأخير وحقوقه.

ربما لا يعرف الكثيرون أنّ هناك قوانينَ تحدّد المدة الإعلانية المسموح بها خلال البث التلفزيوني أو الإذاعي، وتوقيت عرضها ومكانه. هناك بلدان تسمح بعرض الإعلان قبل أو بعد بثّ العمل الدرامي. وهناك قوانين لا تسمح بعرض الإعلانات داخل نشرة الأخبار، أو بشكل يقاطع انتباه المشاهد ويحول بينه وبين فهم ما يُقال له. وهناك توقيت عرض لكلّ نوع من الأعمال الدرامية، وحتى الوثائقية، تحدّده الإجابة عن أسئلة من نوع: هل هناك أطفال بين المشاهدين؟ أو ربما من ذوي القلوب الحساسة الذين يخصّص لهم تحذير بداية البث إلخ.. لكن ما يحصل في غالبية القنوات العربية لا يمكن وصفه إلا بالفوضى الشاملة.

بات ثمن الدقيقة الإعلانية للأسف، هو المتحكّم بالبث، بغض النظر عن بقية القوانين التي تحمي المتفرج/ المستهلك

ففي غياب أي تمويل رسمي أو من المشاهدين للقنوات التلفزيونية الخاصة، بات ثمن الدقيقة الإعلانية للأسف هو المتحكّم بالبث، بغض النظر عن بقية القوانين التي تحمي المتفرج/ المستهلك.

والمشكلة أنّ طول الإعلانات ومقاطعتها الفوضوية للبث ليسا وحدهما المشكلة. فالأهم من ذلك، أنّ أبطال المسلسل الذي تتابعه هم بذاتهم، كما في المسلسلات المصرية، أبطال الإعلانات التي تقطّعه! 

هناك إعلان (أو اثنان؟) لنيللي كريم خلال عرض مسلسلها "عملة نادرة"، وآخران لروبي خلال عرض مسلسلها "حضرة العمدة"، وثالث ليسرا... إلخ. هكذا، وفي محاولة للهروب من الدعايات، تخفّض الصوت وتذهب لتنشغل بشيء ما، وعندما تعود لتفقد المسلسل لا تفهم، بعد أن تلمح بطله أو بطلته، إن كان قد استُؤنف بثه، أو أنه الإعلان الذي لا يزال مستمراً. 

وفضلاً عن غزارة الإعلانات وطولها، بات لدينا إضافة للمنافسة بين عشرات المسلسلات، حلبة منافسة جديدة هي أغاني الإعلانات. 

هكذا يغني محمد منير للبنك الزراعي المصري، وحماقي لمصر للتأمينات، وروبي لمنتجات ماركة "فريش"، وتامر حسني لشيء آخر...إلخ.

يريد المعلن أن يضمن مشاهدة الإعلان، لذا يحشره تحت أنف المشاهد، وهو يفعل، بكلّ بساطة، لأنّ هذا الأخير لا يموّل القناة بل الإعلانات

لا أنكر أن بعض هذه الأغاني ظريف. لا بل يمكن القول إن جودة بعضها يفوق ما نسمعه من جديد الأغاني، كأغنية "هترمضن رمضان ده" مثلاً التي تروّج لشركة "وي" وتؤديها دنيا سمير غانم. لكن هذه الأخيرة ليست أم كلثوم لنسمع أغنيتها تتكرّر كلّ عشر دقائق. فالطول والتكرار يحولان الأغنية/الإعلان إلى عذاب، خصوصاً إن علقت في ذهنك، وذهبت إلى النوم وهي لا زالت تدور وتدور فيه كأسطوانة عالقة لا تستطيع إيقافها.   

كنت قد انصرفت لفترة طويلة عن متابعة مسلسلات رمضان بسبب الإعلانات من جهة، وتدني الجودة بشكل عام. لكن منذ أربع أو خمس سنوات، عدت أتفقد الإنتاج العربي، بعد أن وقع نظيره التركي، الذي كنت أتابعه، في فخ التكرار التجاري، ولم يعد متفرداً بجودة المضمون والشكل كما كان من قبل. 

وبالفعل، تابعت إنتاجات مصرية مميزة كتلك التي تعاونت فيها نيللي كريم مثلاً، وهي ممثلة قديرة وذكية في اختياراتها، مع الموهوبة مريم نعوم في "سجن النساء"، أو "حكاية بنت اسمها ذات" عن رواية لصنع الله إبراهيم إلخ.. لكن المشكلة هي أني لم أتمكن من متابعة تلك المسلسلات إلا... بعد انتهاء شهر رمضان، بسبب استيلاء المعلنين على بثّ القنوات التي كانت تعرضها. 

فما لا يفهمه، أو يفهمه و"يطنشه" أصحاب القرار في التلفزيونات، أنه حين يستحوذ فيلم أو مسلسل على انتباهك، فأنت تنصرف إلى مشاهدته بكلّ جوارحك. تتوّقع، تضحك أو تبكي تخاف تتوّجس أو تنتظر. وإذ بسكين الدعاية تقطع كلّ هذا النسيج لتعرض عليك، بعد نصّ عاطفي محيّر، نوعاً من الجبنة تدّعي دعم الترابط الأسري مثلاً، أو فرشاة أسنان من ماركة محدّدة، هي بالتحديد بوابتك إلى النجاح! 

الاستباحة الإعلانية للمشاهد، تشبه استباحة المواطن في أي خدمة عامة أو خاصة

والأطول من هذه الإعلانات التجارية، تلك التي تتبارى في محاولة لاجتذاب أموال الزكاة مثلاً، أو تتنافس لاجتذاب الصدقات لتمويل مستشفى ما أو كرتونة إعاشة، وهي مبادرات مشكورة. لكن، ما الذي يمنع أن تعرض قبل وبعد المسلسل، خاصة أنّ طول الحلقة لا يتجاوز نصف ساعة؟

يريد المعلن أن يضمن مشاهدة الإعلان، لذا يحشره تحت أنف المشاهد، وهو يفعل، بكلّ بساطة، لأنّ هذا الأخير لا يموّل القناة، بل الإعلانات. 

واستطراداً يمكنني القول إنّ هناك أحياناً تطفيشا مقصودا للمشاهد صوب المنصات التابعة أحياناً للقنوات ذاتها، لكنها تؤمن مشاهدة من دون إعلانات. هكذا يفعل "يوتيوب" مثلاً، فيوجهك لخدمة "بريميوم" الخالية من المقاطعة الدعائية، لكن مقابل بدل مادي.

يعلم المعلنون أنهم مزعجون، لا بل إنهم يستثمرون في هذا الإزعاج: أي إنهم رابحون في كلّ الحالات، لذا لم يهتمون باستياء المشاهدين الفقراء؟ 

الاستباحة الإعلانية للمشاهد تشبه استباحة المواطن في أي خدمة عامة أو خاصة، هذا المواطن الذي يختصر وجوده إلى مجرد مستهلك سلبي: يتلقى، يتأقلم، لا يحتج، ولا يدافع عنه أحد. 

أما أنا، فدفاعاً عن النفس، أعود بكلّ بساطة لمتابعة مسلسلات القناة الصينية الرسمية من دون فواصل دعائية، مؤجلة متابعة الإنتاج العربي الجديد إلى ما بعد رمضان، حيث يعاد بثه، أو يتوّفر مقرصناً على موقع ما، وهذا ما أحبّ اعتباره نوعاً من العصيان الاستهلاكي.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى