طقوس رمضانية في مدينة إب
عبد الحفيظ العمري
تعتبر مدينة إب واحدةً من حواضر اليمن، وليست أيّة حاضرة؛ فهذه المدينة القديمة حافلة بآثار الدول المتعاقبة على اليمن في العصر الإسلامي الوسيط، خصوصاً الدول الصليحية والرسولية والطاهرية، لذا تحتفظ بتراثٍ عريقٍ ورثته من تراكم تلك العهود القديمة. ولعلّ رمضان كشهرٍ استثنائي له "طقوس" خاصة في هذه المدينة، منها ما اندثر، ومنها ما ظلّ باقياً له شواهده على الأرض.
استقبال رمضان
من الظواهر التي كادت تندثر في هذه المدينة العريقة، وتمّ إحياؤها في الفترة الأخيرة، هي استقبال رمضان، إذ حدّثني المرحوم يحيى الغرباني، وهو واحد من كبار السن في هذه المدينة، عن استقبال رمضان في الزمان الغابر، أو بتعبيره "أيامنا"، بقوله: "كنّا نستقبل رمضان قبل دخوله بثلاثة أيام، ونذهب إلى الجبل "لنستقبل" رمضان، حيث يتم "تعميم" أحدنا (إلباسه عمامة) وهو يدخل المدينة، وفي يد أصحابه ألواح وهم ينشدون "التراحيب"، وهي أناشيد في استقبال رمضان ينشدها الجميع؛ مردّدين:
مرحباً شهر رمضان… مرحبا شهر العبادة
مرحباً شهر رمضان… مرحبا شهر السعادة
مرحباً يا زائر الآن… في المجالي والزيادة
والشياطين الملاعين… صُفدوا يا خير عادة
مرحباً أهلاً وسهلاً… بك يا شهر العبادة
والمساجد زَيْنِوها… للقراءة والعبادة
إنه الشهر المبارك… والخير فيه زيادة
يُؤجر المرء كثيراً… لو قرأ فيه آية.
وفي مواضع أخرى يردّدون:
رحبّوا يا صائمينا… شهر رب العالمينا
عاده الله علينا… وعليكم أجمعينا
هو رب الأولينا… هو رب الآخرينا
هو ربي هو حسبي… هو خير الرازقينا
هو غفار الخطايا… هو خير الراحمينا
رب أدخلنا جميعاً… في العباد الصالحينا
ورضى عنا وعفا عنا … وأجرنا أجمعينا
من عذاب في جهنم… أرصدت للمجرمينا.
هذه التراحيب أو الأناشيد لا تزال تُنشد في الجامع الكبير بإب من قبل كبار السن الذين لا يزالون يحفظونها، في حين لا يعلم الجيل الجديد عنها شيئاً!
فوانيس رمضان
كلّنا نعلم بأمر فانوس رمضان الذي يتداوله أطفال مصر العربية كعادة متوارثة منذ زمن الفاطميين الذين حكموا مصر من سنة 358هـ / 969م حتى 567هـ / 1171م، وقد استقبل المصريون المعز لدين الله الفاطمي بالفوانيس عندما انتقلت عاصمة الفاطميين من المهدية في تونس إلى القاهرة، وكان ذلك في 5 رمضان سنة 362هـ / 973م.. لكن وجود هذه العادة في إب، عجيب! وقد أخبر بذلك المعمّرون في إب؛ أنّهم كانوا يحملون الفوانيس في الليل مثل مصر تماماً.
كانت "الموالد" الصوفية تملأ البيوت في إب، إذ يجتمع لها الناس في ليالي الشهر الكريم
بيد أنّ العجب سيزول إذا علمنا أنّ الدولة الصليحية التي انتقلت عاصمتها إلى جبلة سنة 458هـ / 1066م كانت تدين بالولاء للدولة الفاطمية في مصر، فلماذا لا تنتقل هذه العادة إلى اليمن؟
على العموم، حَمْل الفوانيس قد اندثر في إب اليوم.
في ليل رمضان
من الطقوس التي كانت في رمضان بإب "تحزيب" القرآن الكريم، والتحزيب يعني أن يجلس جَمْع من الناس في حلقة داخل المسجد ويقرأ كلّ واحد منهم من مصحفه ثلاث آيات والباقي يستمعون، ثم يقرأ التالي ثلاث آيات وهكذا دواليك، حتى يكملوا "حزب" من القرآن، والحزب نصف جزء، يزيد ذلك أو ينقص، حتى يكملوا المصحف كاملاً مع انتهاء الشهر الكريم، ثم بعد ذلك ينصرفون إلى بيوتهم لتناول القات.
ومع ذلك لم تكن البيوت خالية من الذكر، بل كانت "الموالد" الصوفية تملأ البيوت في إب، إذ يجتمع لها الناس في ليالي الشهر الكريم، ولعل عادة "الوُتْرِيّة" لا تزال حاضرة في تلك البيوت إلى اليوم. فما هي الوُتْرِيّة؟
الوُتْرِيّة هي مجلس يذكرُ الناس فيه سيرة النبي عليه الصلاة والسلام على شكل قصيدة طويلة (قد تكون البُردة أو غيرها)، وفي رابع كلّ بيت من القصيدة يصلّون بصوت جماعي على النبي الكريم وآله الأطهار..
الوُتْرِيّة هي مجلس يذكرُ الناس فيه سيرة النبي عليه الصلاة والسلام على شكل قصيدة طويلة، وفي رابع كلّ بيت يصلّون بصوت جماعي على النبي الكريم وآله الأطهار
لكن من العادات التي اندثرت في ليل إب في رمضان، ما كان يقوم به الصبية المشاغبون مع كبار السن الذين يشربون الدخان في "قصبة" كبيرة تسمّى المَشْرَعة، وهي شبيهه بالجوزة في مصر، وهي غليون طويل القصبة كان كبار السن يملأونه بالتبغ (الذي يُسمّى عندنا التُتَنْ) ويشعلونه، فكان الصبية يقومون بتكسير تلك المَشَارِع في حالة شرود ذهن المدخنين، الذين يقومون بالسخط ومطاردة هؤلاء المشاغبين الصغار!
ومن الظواهر التي لا تزال في ليل إب في رمضان، هي تعليق اللمبات الكهربائية والمصابيح الملوّنة على منائر الجوامع خلال هذا الشهر الكريم، بحيث تبدو تلك اللمبات كعقد مزخرف على عنق المنارة ومتصل بسطح الجامع.
وداع رمضان
كما كان استقبال رمضان بالتراحيب، فوداعه يكون بأناشيد مماثلة، منها ما هو تحريف بسيط للنشيد الأوّل؛ إذ يصبح البيت الأوّل القائل:
مرحبا شهر رمضان… مرحبا شهر العبادة
مرحبا شهر رمضان… مرحبا شهر السعادة.
هكذا:
مُوَدَّع شهر رمضان… مودَّع شهر العبادة
مُوَدَّع شهر رمضان… مودَّع شهر السعادة… إلخ.
أو يفردون نشيد للوداع يردّدون فيه:
مُوَدَّع .. مُوَدَّع يا رمضان… في وداعة الله يا رمضان
شهر الكرامة والإحسان… شهر المودة والإيمان.