طفل رضيع في الخدمة العسكرية

09 يوليو 2023
+ الخط -

قلت لصديقي "أبو سعيد"، الذي اعتاد أن يتصل بي من إدلب، ويفتح لي أحاديث تذكرني بحياتي في سورية:

- أنت، بارع في التنقل بحديثك من فرع إلى فرع.. هذا التنقل يذكرني بدروس الإنشاء والتعبير، في الرابع الابتدائي، عن فصل الربيع، عندما كان بعض الزملاء يكتبون: لقد اكتست الطبيعةُ بساطاً سندسياً، والعصافير أخذت تتنقل من فَنَنٍ إلى فَنَن، وتزقزق... وبالمناسبة، يا أبو سعيد؛ أنا منذ ذلك الوقت، وحتى الآن، أبغضُ كلمة "فَنَن"، وأعتبرها عدواناً سافراً على ذائقتي.

- وأنا أبغض كلمة (لقد)، والإنشاءَ كله.. ولكن المهم، ولكيلا ننسى، أنا وأنت حكينا، في مكالمتنا السابقة، عن المشاكل التي كانت تنجم عن استخدام الهاتف، وكيف كان الحصول على خط هاتفي أمراً في غاية الصعوبة.

- صحيح. اسمع هذه النهفة. في سنة 1975، مررتُ بمقر دائرة البريد والبرق والهاتف في بلدتي معرة مصرين، وإذا بشقيقي أبو عماد، وكان موظفاً هناك، يقول لي: خذ هذه الورقة، واكتب عليها طلباً للحصول على خط هاتفي آلي باسمك. فضحكت وقلت له، إنني الآن في السنة الثالثة بالجامعة، وليس لي عنوان محدد، ولست متزوجاً، ولا أمتلك بيتاً، فماذا أستفيد من تقديم طلب للحصول على هاتف؟ قال لي: إذا أنت تقدمت بهذا الطلب لن تخسر شيئاً، وثمن الطابع ستون قرشاً أنا أدفعها عنك، لكن قد يفيدك هذا الأمر في المستقبل. وبالفعل تقدمت بالطلب، وفي زحمة الدراسة والخدمة العسكرية بعد التخرج، والخطبة والزواج، نسيته، وبعد سبع سنوات، في سنة 1982، وكنت قد تزوجت، وسكنت مدينة إدلب، وبالمصادفة التقيت بشقيقي أبو عماد، فقال لي: طلع لك خط هاتف في معرة مصرين، بإمكانك أن تدفع رسومه وتطلب نقله إلى مدينة إدلب.. وهكذا، حصلت على خط في زمن قياسي، بينما كان الناس ينتظرون سنين طويلة حتى يأتي دورهم.  

أبو سطام محسوب بين ظرفاء مدينة إدلب، وأنا أشهد بأن هذه المدينة أنجبت الكثير من الظرفاء، ولكن لم يكن فيها أحدٌ يمتلك مثل ذكائه

ضحك أبو سعيد وقال: سنين طويلة فقط؟ جاري أبو عثمان، الله يرحمه، أمضى عمره في انتظار الدور، وبعدما مات بسنتين جاء دوره، فذهب واحد من ورثته إلى المؤسسة، وسألهم عن إمكانية الاستفادة منه، فأخبروه أن الحصول على الخط يحتاج إلى وثيقة "حصر إرث" من المحكمة، ومن الضروري أن يتفق الورثة على اسم واحد منهم، ويفوضوه باستلامه، وأن يُوَثَّق التفويض عند "الكاتب بالعدل".. وعاد الرجل إلى إخوته، واجتمعوا، وأخبرهم بما سمع، فاختلفوا بين بعضهم على من سيكون صاحب الحظ السعيد ويأخذ الهاتف، ثم اتفقوا على إجراء القرعة، ولكن؛ مَن ترسُ عليه القرعة يجب أن يدفع لبقية الورثة حصصهم الشرعية، محسوبة على أساس أن دائرة الهاتف أتاحت فرصة لمن يشاء من التجار أن يحصل على خط بشكل استثنائي، ولكن بمبلغ كبير، يعني يجب احتساب الحصص كما لو أن المستفيد سيركب خطاً هاتفياً استثنائياً. وهنا رفض الجميع الدخول في القرعة، لأنها ستكون عملية مكلفة، وقال الأخ الأكبر: والدُنا مات، فليمت خطه الهاتفي معه!

- شكراً لك أبو سعيد، فهذه قصة طريفة حقاً.

- نعم، وهناك طرفة أحلى منها، بطلُها "أبو سطام الوعل"، الذي رُزق بولد، فذهب وسجله في دائرة النفوس، ومن هناك عرج على دائرة الهاتف، وطلب منهم تسجيل طلب خط هاتفي باسم الولد، فلما سألوه كم عمره؟ قال 18 سنة. قالوا له: لماذا لم يأتِ هو ويقدم الطلب بنفسه؟ فرد عليهم بأن الولد الآن في الخدمة العسكرية. طلبوا منه هويته، فقدم لهم ورقة النفوس. قال الموظف مندهشاً: ولكن هذا عمره يوم واحد! قال: نعم، ولكن، حينما يأتي دوره في الحصول على خط هاتفي يكون قد تجاوز سن الـ18!!!

- هذه القصة أنا أعرفها لأن أبو سطام، رحمه الله، كان أعز صديق لدي في مدينة إدلب، ويحكي ما يجري معه أولاً بأول.

- طيب، بما أننا، يا أبو مرداس، نتنقل في حديثنا من فنن إلى فنن، ليتك تحكي لي عن صديقك أبو سطام.

- حاضر. أنت تعرف، أن أبو سطام محسوب بين ظرفاء مدينة إدلب، وأنا أشهد بأن هذه المدينة أنجبت الكثير من الظرفاء، ولكن لم يكن فيها أحدٌ يمتلك مثل ذكائه.. هذا مع أن قسماً كبيراً من الناس لا يعتبرونه ظريفاً، والسبب، في اعتقادي، أنه عندما يتكلم لا يضحك، ولا يبتسم، فتبدو طريقته في الكلام ملتبسة، ويحتاج مَن يسمعه إلى كثير من الانتباه والتركيز، ليتمكن من اكتشاف الجانب التهكمي عنده، وبعضهم يرى في شخصيته شيئاً من اللؤم، أو الخبث، ما يدل على أنهم لا يفهمونه بالفعل، فهو طيب القلب جداً.

- أنت كاتب، وتهتم بالسخرية، ولا بد أنك تقدر على فهم أسلوبه، لأنه يشبهك.

- الصحيح: أنا أشبهه، وليس العكس. لنبدأ باسمه. أنت تعرف أن الوضع الطبيعي، بالنسبة لرجل يعيش في مجتمعنا المحلي، أن يسمي أول واحد من أبنائه الذكور على اسم أبيه، وهو يحمل اسم "أحمد خالد الوعل"، يعني يفترض أن يسمي بِكْرَه "خالد"، ولكنه شذ عن القاعدة وسجل مولوده الأول في دائرة النفوس باسم سطام.

- هذا أمر غريب بالفعل، واسم "سطام"، بالمناسبة، غير متداول في مدينة إدلب، إنه اسم شائع في مناطق البدو.

- نعم. وبالمناسبة؛ هو كان يُسْأل كثيراً عن سبب عدم جريه على عادة تسمية الولد البكر باسم أبيه، فيرد بطرق مختلفة، منها قوله إن خمسة من إخوته الذكور، كل واحد منهم سمّى وليده الأول "خالد"، وصار لزاماً على كل واحد أن يعرف نفسه بأنه خالد ابن فلان وفلانة.. ولو كان هو سادسَهم لصاروا نصف دستة، ومرة سئل عن سبب اختياره اسم سطام فقال:

- في كل فترة تدرج في المدن السورية الكبرى (موضة) اسم جديد، مثل فادي، وشادي، ووسيم، وهذه الأيام درجت موضة اسم سطام.

وبالطبع فإن كلامه غير صحيح، لأن مدينة إدلب لم يكن فيها رجل واحد يحمل لقب "أبو سطام" غيره.

(للحديث صلة)    

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...