صورة الأسد في مضافة الشيخ
في الثمانينيات من القرن الماضي، تعاملَ «الحاج أحمد»، وهو صاحبُ مقلع للحجارة في منطقة «أريحا»، مع أحد زعماء شبيحة الجبال الساحلية.. كان يُوَرِّدُ له حجارة فخمة ليبني بها قَصْرَهُ على تلة مرتفعة في قريته الجبلية.
الحاج أحمد، بعد أن وَرَّدَ لزعيم الشبيحة الذي يسمي نفسه- زوراً- «الشيخ» عدة طلبيات، دون أن يقبض من ثمنها شيئاً، ركب سيارته «المازدا 929» وذهب ليُحَصّل ثمن حجارته.. ذهب وهو متوجس خيفةً، ليقينه بأن «الشيخ» رجل مستبد، و«مُبْطِل» لا يحب دفع ما عليه من حقوق.
استقبل «الشيخُ» ضيفَه الريحاوي في مضافته الكبيرة التي يخصصها لأعماله الإدارية المتنوعة، كالسلب، والنهب، والتشبيح، وعَقْد الصفقات. أولم له، وبعد الغداء غصت المائدة بالفواكه والحلويات والموالح، والفستق الحلبي الأخضر الذي أحضره الحاج أحمد معه من أريحا هدية للشيخ..
في المكان مجموعة من عمال الشيخ ومرافقيه. إنهم فتية تتراوح أعمارُهم بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين، يرتدون القمصان «المُشَلَّحَة» التي تُبرز زنودهم الثخينة العامرة بالعضلات الفولاذية والوشم. مَن يَرَهم لأول مرة يلاحظْ على وجوههم الغباء المُرَكَّز، ويستشف وجود استعداد تام لديهم للعدوان على مَنْ يرتئي الشيخ ضرورةَ العدوان عليه، في الزمان والمكان اللذين يُحددهما.
«الشيخ» يحب هؤلاء الفتية كثيراً، ويُدَلِّعُهم مستخدماً كلمات تبدو فجة، من قبيل: «كر»، و«جحش»، و«حيوان».. وهم يفرحون حينما يخاطبهم بهذه المفردات، لأنها تنطوي على نوع من «التباسُط» و«الخصوصية» التي لا يمنحُها لغيرهم.
التفت نحوهم وصاح بهم بنبرة تَقَصَّدَ أن يُضَمِّنَها شيئاً من اللؤم:
- ولاه حواوين.. تعالوا هنَّا..
مثلوا أمامه، فقال لهم: لا تحطوا «عَرَق» على الطاولة اليوم، ضيفنا الحاج أحمد لا يشرب العرق!
قالوا له: أمرك معلم.
ونفذوا الأوامر بحذافيرها.
ساد الصمت على الجلسة بعد الغداء. والحاج أحمد همَّ بالكلام أكثر من مرة، محاولاً البحث عن صيغة أمينة للمطالبة بحقه، ولكن نظرات «الشيخ» كانت تتحول عنه إلى صورة لـ «حافظ الأسد» معلقة في صدر المضافة، كأنه يطلب منه أن يشاركه النظر إليها، والإعجاب بها.
فجأة قال الشيخ: شو رأيك بصورة هالقائد العظيم يا حاج أحمد؟
الصورة، في الواقع، عبارة عن نسخة من مئات الألوف من النسخ التي طبعها اتحادُ الفلاحين، في أحد مؤتمراته السنوية، وفيها حافظ الأسد، يرتدي الزي العربي، ويعتمر بالغترة والعقال، وتحتها كتبت عبارة «الفلاح الأول».
قال الحاج أحمد مجاملاً، خائفاً:
- بصراحة؟ رائعة..
قال الشيخ: هه. قلت لي صورة هالقائد العظيم رائعة؟ أي وشو كمان؟
الحاج أحمد، في الواقع، ثقافتُه على قدها، فهو لم يصل إلى الصف التاسع إلا بشق النفس وطلوع الروح.. ولكن لديه بعض الثقافة العامة.. لذلك وجد نفسه يقول للشيخ:
- والله إنها تحفة فنية رائعة، و.. و.. ومُعَبِّرَة.. يعني هي تضاهي بجمالها «الموناليزا».
قال الشيخ: ليك.. والله أنا مو سمعان بهاي «الليزا» اللي قلت عليها. بس أكيد هيي شغلة كيسة.. يعني، على قولتك، قديش بتسوى صورة هالقائد العظيم؟
هنا أسقط في يد الحاج أحمد، وقد فاجأه السؤال، وحار بماذا يجيب. ففي الأحوال العادية، لو كان الحاج أحمد جالساً يشرب الشاي مع عماله، في غرفة المقلع الجوانية، ونط واحد من العمال، وقال له: «قديش بتسوى هالصورة؟».. يمكن أن يتجرأ ويقول له: بتسوى ضرطة!!.. ولكن، هنا، في حضرة هذا الشبيح الكبير، يجب توخي الحيطة والحذر... لذلك قال:
- تسوى كثير يا شيخ.. مئات الألوف من الليرات السورية والله.
قال الشيخ بتركيز كبير: مئات الألوف؟ يعني قديش؟
قال الحاج: يعني مو أقل من مليون ليرة سورية.
قال الشيخ: وأكتر. على كل حال ولا يهمك.
وقال لأحد شبيحته: تعال أنت ولاه كر. لف صورة القائد لعمك الحجي!
قال الشبيح: حاضر شيخ.
وقال لشبيح آخر: تعال ولاه، الجحش الكبير أنت. هات الدفتر، شوف قديش حساب الحاج أحمد، اخصم عليه مليون ليرة حق صورة القائد حافظ الأسد، وإذا حسابه أكثر من مليون، ادفع له الفرق، وإذا أقل من مليون سامحناه بالفرق. يللا ابني يللا..
وقال لثالث: تعال أنت ولا ابن ال... اتصل بالجمعية الفلاحية خلي يبعتوا لنا صورة للقائد حافظ الأسد... ولك ما هي كيسة بحقنا، أن يدخل أحد إلى هذه المضافة وما يشوف في صدرها صورة للقائد الكبير!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد 2014