صندوق العـرس

27 سبتمبر 2024
+ الخط -

للصناديق سِيرٌ طويلة، بدءاً من الصناديق المجازية وأوّلها الصدر، وآخرها القبر، مروراً بصناديق الحكايات من ألف ليلةٍ وليلةٍ، ثم صندوق العجائب، وهناك أيضاً صندوق البريد (خاذل العشّاق). وأمّا أهمها فهو الصندوق الأسود في الطائرات، وأكذبها صناديق الاستثمار والبنوك والسيادة، لننتهي بصندوق الأثاث، حيث كان الأثاث (قديماً) بسيطاً جدّاً ونادراً جداً، وربّما تكون أقدم قطعة أثاث وأكثرها استعمالاً هي الصندوق، فله قِدَمٌ تاريخي بعيد، ويُستخدم لحفظ الأشياء المهمّة من مجوهرات أو ذهب (إن وجدت). وكان اللصوص، وحتى يومنا هذا ربّما، وإن اختلفت طرائقهم، إذا دخلوا بيتاً أوّل ما يبحثون فيه عن الصندوق، ويظلّ للصندوق (أيّ صندوق) هيبة، وفتحه يكون دوماً بحالةٍ من خوفٍ ورغبةٍ في آنٍ واحد، وأنواع الصناديق متعدّدة نقف عند صندوقٍ منها يرتبط بالقلب مباشرة عند أغلب الناس، وصفه المبدع مظفر النواب بالقول "مو حزن لكن حزين... مثل صندوق العرس... ينباع خردة ْ عشگ من تمضي السنين".

صندوق العرس

سابقاً، كان لا يخلو جهاز عروس منه تقريباً، حتى صار رمزاً يَختزل تجهيز العروس ويدلّ على مكانةِ أهلها، غناهم أو فقرهم. ويكون الصندوق عادةً من الخشب، مُغطّى بقشرةٍ كاملةٍ من الحديد، أو من الخشب المُطّعم بقطعِ الحديد، وتنتظم على وجوهه مسامير نحاسيّة في تشكيلات مختلفة (كان هناك اعتقاد قديم بأنّ النحاس يطرد الشر). ويكون حجم الصندوق وزينته بحسب حال العروس، وهو حلم كلّ فتاة، ومع أوّل بوادرَ لتراتيل الحبّ ينطلق خيالها، فتتخيّل حجم الصندوق وزينته، وتبدأ بتحديد الأشياء التي ستضعها فيه لاحقاً. وهنا، يجب أن تجهّز بذهنها كلّ ما تحتاج إليه، فهي لا تريد أن يُحْمَل صندوقها إلى بيت الحبيب لتكتشفَ أنّها نسيت شيئاً، هذا الصندوق الذي يصل إلى بيت الزوجيّة الجديد معزّزاً مكرّماً، يحمل احتياجات العروس الجديدة من أدواتِ الزينة والعطور والحنّاء، وربّما (المجوهرات)، بدايته كبداية الفرح، ثم يصبح مع الوقت بمثابة خَزنة تُوضع فيها الأشياء الثمنية من مال أو مستندات وعقود وصكوك، وربّما يُخبّأ فيه السلاح، وفي أسفله تضع الأم بطانيّة طفلها الأوّل، تُخبئها لسنواتٍ قادمة كثيرة، إذ تنتظر أن يُرزق ولدها بطفلٍ تلفه فيها. وربّما وضعت فوقه أشياء أخرى ليصبحَ من الصعب على الصغار فتحه، فالصندوق ممنوع الاقتراب منه أو فتحه، ومفتاحه يكون في حرزٍ أمين. وهنا، تنتاب السعادة الأطفال عندما تفتح أمهم الصندوق، فيلتفون حولها بأعناقٍ تتطاول لترى ما يحتوي هذا الصندوق المقدّس. ومع الوقت يكبر الأولاد، والصندوق الذي كان حلمهم أن يفتحوه، يصبح مجرّد صندوق قديم من الخشب، صاروا يعرفون محتوياته: زجاجة حليب لطفل رضيع (صار الآن شاباً يَعْشَقُ ويُعْشَقٌ)، مفتاح كبير من النحاس، أغطية وسائد مطرّزة يدوياً بخيوط ملوّنة...

الصندوق.. ممنوع الاقتراب منه أو فتحه، ومفتاحه يكون في حرزٍ أمين

هذا حال الأولاد، أمّا مع البنات فيختلف الأمر عندهن، فالصندوق هو سيرة الأم وعمرها الفائت، وكلّما ظلّ الصندوق مهيوباً مَصوناً، فهذا كناية عن مكانة الأم القوّية في العائلة. أمّا زوجات الأبناء، فالصندوق يظلّ سؤالاً ملحاً، خاصّة إن ظلّ مغلقاً مجهول المحتوى، فتظلّ الكنّة راغبةً في معرفة ما فيه، وكثيراً ما تفترض أنَّ فيه ذهباً ومالاً تخبّئه الأم. وإن غلّبت اليقين بأنّ فيه شيئاً ثميناً تتحايل وتتلطّف وتُظهر عكس ما تبطن (فالصدور أيضاً صناديق مغلّقة)، لتعرف ما يوجد فيه. وإنْ فشلت تستغل لحظة موت الأم وانشغال أهل البيت، لتفتح الصندوق خُلسةً، عسى أن تغنم منه شيئاً. وربّما تُوصي الأم بصندوقها لإحدى بناتها، حتى إنّ البنات إذا ماتت الأم يرثينها برثاء بليغ: "مفتاح صندوقچ خذنو عفنات ما يستاهلنو" (والعفنات هن جمع عفنة أي ضعيفة الهمّة والمروءة والوجدان والمقصود الكنائن).

وعلى الرغم من التطوّر الكبير في عالم الأثاث، ما زال الصندوق القطعة الأساسيّة، وما نراه اليوم من خزائن متنوّعة، ما هي إلا صناديق مركّبة بأشكالٍ مختلفة.

كاتب سوري
جاسم الحمود
مهندس معماري وكاتب قِصّة من سورية، حاصل على عدّة جوائز في كتابة القِصّة.

مدونات أخرى