صديقي ماريو بارجاس يوسا (2/2)
الغريب أنني قرأت مقالات وتصريحات لأدباء ونقاد مصريين حول مواقف يوسا السياسية، وصلت إلى حد الحديث عن بعض كتابات ابنه الأكبر الذي تحتفي به الصحافة اليمينية في أميركا، وتعجبت من إصرار البعض على الاستمرار في تصوير أن من يحصل على نوبل للآداب لابد أن يكون مرضياً عنه من الصهاينة والأميركان، فقد كنت أظن أن ملفاً مثل هذا كان ينبغي أن يُغلق بعد ذهاب الجائزة لكتَّاب مثل: ساراماجو وداريو فو وهارولد بنتر ولوكليزيو وجميعهم أصحاب مواقف رائعة ضد الصهيونية والغطرسة الأميركية، بالطبع ليس يوسا من بقية أهلي لكي أتعصب له وأسعى لمنع أي اجتهادات تطلق بشأنه، لكنني كنت أتمنى أن تكون اجتهادات تقف عند حدود الأدب (أقصد معنَييّ الكلمة هنا)، ولا تتطوع بمحاولة تشويه الرجل ووصمه باتهامات تبعد عنه القارئ المصري والعربي، خاصة أن الرجل اتخذ مواقف سياسية لم تعجب إسرائيل عندما زار الأراضي المحتلة وانحاز للحق الفلسطيني بطريقته، ومن خلال مفاهيمه التي قد لا ترضي طموحاتنا، لكنها يمكن أن تشكل أرضية للحوار مع رجل مثله لديه تأثير أدبي كبير في العالم يمكن أن نستفيد منه لخدمة القضية الفلسطينية إذا كنا راغبين أصلا في خدمتها، أو تذكرها.
على أيّ حال، أعتقد أن يوسا وأدبه أعظم وأجمل بكثير من أن أحاول تلخيصهما أو اجتزاءهما حتى في مساحة شاسعة كهذه، أعجبني السطر الذي عللت به اللجنة قرار منح الجائزة ليوسا «لرسمه خرائط بُنى السلطة ولتصويراته المتعمقة لمقاومة الفرد وثورته وانهزامه»، وهو سطر يلخص بعضاً من أعمال يوسا، لكنه لا يختزل تجربته كلها كما أظن، في (حفلة التيس) ستجده يقدم تجربة بديعة في أدب الديكتاتور من خلال روايته لقصة ديكتاتور الدومينيكان الشهير تروخيو.
عندما ظهرت الطبعة العربية الأولى للرواية في عام 2000 وقرأتها بنهم واستمتاع، لم أكن أعلم جهلا مني أنها تتحدث عن شخصية حقيقية، ثم بعد ذلك ومع تتبعي لأعمال يوسا وجدت أنه يكتب كثيرا من أعماله الروائية عن شخصيات حقيقية، ولكن بعد أن يقوم بعمل خلطة روائية بديعة يختلط فيها الواقع بالخيال بشكل مدهش، ستجد ذلك في روايته (الفردوس في الناصية الأخرى) التي يروي فيها جانبا مجهولا من حياة الرسام العالمي بول جوجان، في روايته (قصة مايتا) التي جلبت له سخطا من رفاقه اليساريين القدامى يلقي الضوء على تناقضات الأحزاب السياسية اليسارية، مازجا الواقع بالخيال بأسلوب ساخر مدهش. في روايته (بانتاليون والزائرات) يحكي بشكل ممتع عن قصة تأسيس جيش بيرو إدارة سرية تقدم خدمات للدعارة في المناطق التي يخدم فيها الجنود في الغابات والأحراش لكي لا يقوموا باغتصاب نساء القرى المجاورة لمناطق خدمتهم، ويتم تكليف أكثر الضباط حزما وصرامة بترك الخدمة العسكرية رسميا وإنشاء هذه الإدارة دون أن يعترف بارتباطها بالجيش.
في روايته (من قتل بالومينو ماليرو) يكشف من خلال تحقيق في جريمة قتل حلقات الفساد التي تنشأ بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، وحتى في أعماله التي تبدو بعيدة عن الأجواء السياسية يحرص يوسا على تقديم خلفية معرفية في كل رواية بأسلوب يبتعد عن المباشرة، لكنه يقدم فائدة عظيمة لقارئه.
لا يلقي يوسا اللوم على وسائل الإعلام وحدها بسبب تضخيمها لما حدث، فهو يرى أنها باتت مضطرة لفعل ذلك لأن هذا هو ما ينتظره منها قراؤها ومشاهدوها في العالم أجمع
كل ما حققه يوسا من نجاحات أدبية لم يقنعه بالابتعاد عن الاشتباك مع الواقع، فهو حتى الآن يكتب في الصحف مقالات منتظمة، بل ويقوم أحيانا بعمل تحقيقات صحفية بتكليف من بعض الصحف، وهو يعلن دائما أنه مدين للصحافة بأنها ألهمته نصف ما كتبه، وفي حين يحاول بعض كتَّابنا أن يهرب من اتخاذ مواقف سياسية محترمة يواجهون بها الواقع بزعم أن ذلك يؤثر سلبا على جودة أدبهم، نرى يوسا عندما يُسأل في حوار صحفي حول إصراره على كتابة المقالات السياسية، وما إذا كانت يمكن أن تؤثر عليه سلبا، فيرد قائلا: "أعتقد أن الكاتب لا يجب أن يفكر في الانسحاب، إن مهمة الكاتب هي أن يكتب بصرامة، وأن يدين كي يدافع عما يؤمن به بكل ما لديه من موهبة، أومن أن هذا اعتبار أخلاقي للكاتب، لأنه لا يمكنه أن يكون فنانا مجردا. أعتقد أن على الكاتب مسؤولية من نوع ما، على الأقل في أن يشارك في الحوار المدني، لأنني أعتقد أن الأدب يحسن الأحوال إذا أصبح جزءا من برنامج الناس والمجتمع والحياة... أعتقد أن مداخلات الكتاب في الحوار العام يمكن أن تصنع فرقا، إذا انتزعت الثقافة تماما من سياق ما يجري فإنها تصبح مصطنعة".
لم يكتف يوسا فقط بالكتابة في الشأن السياسي والاشتباك مع الواقع، بل قرر أن يخوض تجربة العمل السياسي بشكل مباشر حين رشح نفسه لانتخابات الرئاسة في موطنه بيرو ضد رئيسها ألبرتو فوجيموري، ودخل في جولة إعادة خسرها، وكانت تجربة مريرة قضى فيها ثلاث سنوات من عمره، لكنه تعلم منها أشياء كثيرة، أهمها أن "شهوة السلطة السياسية يمكن أن تدمر عقلا بشريا وتدمر مبادئا وقيما، وتحول البشر إلى وحوش صغيرة"، وأن "الطغاة ليسوا كوارث طبيعية، بل يتم صناعتهم بمعاونة عديد من البشر، وأحيانا بمعاونة ضحاياهم أيضا"، وبعد هزيمته قرر أن يعود ثانية إلى الأدب، وهو أمر نحمد الله عليه، لأنه أنتج بعدها عددا من الروايات الجميلة، لكنه لم يتوقف عن كتابة المقالات السياسية المهمة والممتعة حتى الآن.
آخر ما قرأته ليوسا كان مقالا بعنوان (زمن البهلوانات) نشرته له (أخبار الأدب) وترجمه الروائي المتميز أحمد عبد اللطيف، وهو مقال احتفت به العديد من المواقع الثقافية العربية بوصفه يشكل إدانة لما قام به القس الأميركي المتعصب تيري جونز الذي دعا إلى حرق القرآن الكريم في كنيسته بفلوريدا، لكن المعنى الأهم في مقال يوسا كان عن ثقافة الاستعراض التي أصبحت هي السمة الأساسية لمجتمعنا في هذا الزمن الذي يصفه يوسا بأنه أكثر الأزمنة التباسا في تاريخ البشرية، معتبرا أن ما فعله جونز من حماقة وبهلوانية لم يكن يستحق سوى الصمت أو التجاهل، أو على أقصى تقدير كتابة سطرين في صفحة النكات والغرائب بالصحف، لكن احتفاء وسائل الإعلام بجونز كاد يشعل العالم كله، وجونز كان سعيدا بذلك ولم يدرك أبدا خطورة ما فعله، لأنه على حد تعبير يوسا "أحد ملامح التعصب المحددة هو عدم قدرة المتعصب على تملك خطة بالأولويات الرصينة والمنطقية، فالأولوية الأولى لديه هي دائما فكرة أو إله يمكن أو يجب أن يضحي بالآخرين من أجله".
لا يلقي يوسا اللوم على وسائل الإعلام وحدها بسبب تضخيمها لما حدث، فهو يرى أنها باتت مضطرة لفعل ذلك لأن هذا هو ما ينتظره منها قراؤها ومشاهدوها في العالم أجمع "أخبارا تخرج عن الروتين اليومي، تدهش، تربك، ترعب، تفضح، وفوق كل شيء تسلي وتلهي.. لا يمكن أن تكون المعلومة في أيامنا جادة، لأنها لو كانت كذلك سيكون مصيرها القبر، فالقاعدة العريضة من تلك الأقلية التي ما زالت تهتم بمعرفة ماذا يحدث يوميا في الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم، لا تريد أن تشعر بالملل وهي تقرأ أو تسمع أو تشهد تحليلات فطنة ولا معقدة مليئة بالصبغات، وإنما تريد أن تتسلى، تقضي وقتا هادئا يخلصهم من ضيق وإخفاقات وتوترات اليوم، وليس محض صدفة أن تجد جريدة مثل لوموند الفرنسية، وهي واحدة من أكثر الجرائد جدية واحتراما في أوروبا، على أبواب الإفلاس عدة مرات في السنوات الأخيرة، وأنقذت نفسها حديثا مرة أخرى، لكن من يدري إلى متى، إلا إذا خضعت لإفساح مساحة للخبر التسلية، الخبر النكتة، الخبر التفاهة، الخبر الفضيحة، الذي احتل بطريقة منهجية كل وسائل الإعلام الكبرى، سواء في العالم الأول أو الثالث... ولكي تمتلك وسائل الإعلام الآن الحق في الوجود والازدهار لا يجب أن تعطي أخبارا، وإنما تقدم استعراضا لمعلومات تشبه في لونها وفكاهتها وطابعها المثير وعلو نبرتها، الاستعراضات الواقعية، حيث يلتبس الحق بالباطل كما يحدث في العمل الخيالي".
ويلفت يوسا الانتباه إلى أن تحول التسلية لتكون القيمة الأهم في عالمنا برغم تجاوزها لمبادئ أساسية، مثل التعايش والأخلاق والجمال والذوق، مشكلته أنه شرٌّ لا بد منه في المجتمعات التي تتمتع بالحرية، لأن محاولة تقليل أو قمع الحرية من أجل السيطرة على هذه الجوانب السلبية للتسلية، سيكون له عواقب أوخم من هذه التفاهات، وهو ما يجعل المجتمعات للأسف تواصل افتتانها بالحاجة للتسلية كهدف أول، وبالتالي يُحَوِّل المجتمع "خطوة خطوة ساسته ومثقفيه وفنانيه وصحفييه ورعاته أو كهنته وحتى علماءه وعسكرييه إلى بهلوانات"، وهو ما ينذر في رأيه بدفع عدد أكبر من الناس من مختلف المدارات للتصرف بطريقة تسمح لهم بالهروب من الظلام والدخول في محيط الشهرة التي يتمتع بها البهلوانات الذين يُصفق لهم إن أجادوا فن التسلية ويتلقون البقشيش، ثم يُنسون إلى الأبد، لدرجة أنك تجد عالما كبيرا مثل ستيفن هاوكنج يجعل دعاية كتابه القادم مبنية على حديث شديد السطحية يقول فيه: إنه سيبرهن أن خلق العالم يمكن أن يحدث دون حاجة إلى إله، وهو ما يعتبره يوسا دليلا على سيادة مناخ الاستعراض والبهلوانية الذي يفسر ما قام به العنصري تيري جونز، والذي "ربما يكون متعصبا أو مجنونا أو مهرجا صرفا، لكنه في كل الأحوال يجب أن يبقى واضحا أنه لم يفعل ذلك بمفرده، فكلنا شركاء له".
فتح الله عليك يا عم يوسا، يا صديقي العزيز.