صار أستاذ وفتح عيادة بحلب

06 اغسطس 2019
+ الخط -
مع أن الأستاذ مجيد الدردي أمضى أربعين سنة في التعليم، إلا أن الحكايات التي يعرفها عن التعليم خالية من الفكاهة، ويغلب عليها الرأي الجِدّي المتعلق بالطرق التربوية السليمة، والإشارة إلى الأخطاء التربوية القاتلة.

بناءً على ذلك، استطعنا نحن المداومين على جلسات "الإمتاع والمؤانسة" أن نفيده بحكايات لم يسمع بمثلها في حياته، ومنها حكاية الرجل المدعوّ "أبو عليّان" الذي كان أبناؤه ينتقلون من صف إلى آخر ويحصلون على شهادات عالية وهو لا علمَ له بذلك، وإذا سأله أيٌّ من أصدقائه عن واحد من أبنائه يقول له: الحمد لله صار أستاذ!

قال أبو إبراهيم: السؤال الأولاني بالنسبة لأبو عليان مقبولْ، أما إذا بدك تصَعّبْ عليه الموضوع ممكن تسأله: إبنك فلان اللي عم تقول إنه صار أستاذ شو اختصاصُه؟ وبوقتها راح يقلك: أنا أيش عرفني بالاختصاص وما اختصاصْ؟ أنا بعرف إنه صار أستاذ والسلام.

قال أبو زاهر: واضح إنه أبو عليان قصته طريفة. اللي بيعرف تفاصيلها يا ريت يحكي لنا عنها شوي.

قال الأستاذ كمال: الحقيقة أن ابنُه الكبير علي، اللي كل الناس بيعرفوه باسم عْلَيَّانْ، هو المؤسس الفعلي للظاهرة التعليمية في نطاق الأسرة. عَلِي بيعرف إنه أبوه ما بيشتري المدرسة مع مديرها والمعلمين اللي فيها والآذن والطلاب بربع ليرة، وكل اللي بيهمه إنه أولاده يساعدوه في فلاحة الأرض وتشحيل أشجار الزيتون ورعي العنزات وصناعة الجبنة والقريشة والشنكليش.. منشان هيك علي كان يرافقُه في كل هالأعمال، وبنفس الوقت ياخد معه الكتاب، وكان علي يستغل كل دقيقة استراحة أو فراغ في قراية الدروس وكتابة الوظايفْ.. وبعد ما كبر الجيش تبع أبو عليان..

قاطعه أبو زاهر مستفسراً: جيش؟

قال الأستاذ كمال: نعم، السيدة أم عليان كانت تولد في كل سنة ولد، بدون أي فاصل منشط، وفي بعض المرات يكون الحمل تبعها ولدين توائم، والكل صبيان لحتى صار عنده في المحصلة جيش عرمرم.. هون صارت مهمة "علي" أسهل من قبل، فصار يوزع الشغل وأوقات الفراغ المخصصة للدراسة بين إخوته، مع مراعاة ظروف المذاكرات والامتحانات، وباعتبار أن الأم والأب بيناموا بعد صلاة العشا، كنت تلاقي البيت في السهرة شبيه بقاعة المطالعة في أحد المراكز الثقافية، واحد عم يحل مسألة رياضيات، وواحد عم يحفظ قصيدة لبدوي الجبل، والتالت عم يبحث في القصيدة عن حالات إعرابية بارزة، والرابع عم يحاول يفهم قانون لافوازيه في انحفاظ الكتلة.. ولما بيفيق أبو عليان الصبح وبيقول: وين الشباب؟ بيتحول الجيش فوراً إلى رعاة ماعز وحلابين غنم وجَبَّانين ومشحلين زيتون.. ولما بتنتهي السنة وبتطلع النتائج كانوا أهل القرية كلهم يندهشوا من كون أولاد أبو عليان كل واحد منهم متفوق في صفه على كل رفقاته.. ولما بلشوا الشباب ياخدوا البكالوريا ويدخلوا في المراحل الجامعية، كان الأمر بيتطلب تغيير الخطة من قبل عليان وباقي أركان الجيش.

قال أبو محمد: مع أني أبو عليان ابن ضيعتي، وعلاقتي فيه جيدة، صدقوني ما بعرف كل هالحكي. اللي بعرفه إنه ولادُه كانوا شاطرين ومتفوقين في المدرسة وبس. هلق الأستاذ كمال عم يحكي عن تغيير الخطة.. ليش الخطة الأولانية أيش هيي؟

قال كمال: الحقيقة أن الفضل الأكبر في تعليم مجموعة أولاد أبو عليان بيعود لإبن ضيعتنا "أبو سعيد".. هادا الرجل كان هوي التاجر الوسيط اللي كان ياخد منتوجات أبو عليان ويبيعها في سوق الهال بمدينة إدلب. وكل يوم خميس كان يجيب تَمَنْ المنتوجات ويسلمه لأبو عليان. وكان أبو سعيد متواطئ مع العصابة التعليمية اللي بيقودها عليان، ودائماً بيترك مبلغ من مستحقات أبو عليان ويسلموا لعليان منشان يشتري كتب ودفاتر وأقلام ومساطر للجيش تبعه.. لاكن بعد البكالوريا الوضع انكشف، وما عادت المشكلة مقتصرة على المصاري والخرجية.. لأن كل طالب حصل على البكالوريا صار لازم يروح ع مدينة حلب منشان يدرس طب أو صيدلة أو رياضيات أو أدب إنكليزي.. يعني صار مصروفه أكبر، ولازم يسكن في المدينة الجامعية بحلب، وبنفس الوقت المفروض يتوقف عن المساهمة في تشحيل الزيتون ورعي المعز وحلب البقر ونقل السماد.. 

قال أبو محمد: أنا لو عندي متل هالولاد كنت ببيع كل أملاكي وبروح بسكن بلزق الجامعة.. 

قال كمال: وأنا متلك يا عمي أبو محمد، لاكن كل إنسان عقله بيختلف عن عقول الآخرين. المهم العم أبو سعيد راح زاره لأبو عليان، وعملوا اجتماع عائلي رفيع المستوى بوجود كل الجيش.. وبعد أكتر من ساعتين من المداولات توصلوا لاتفاق مؤلف من بندين:

أولاً- اللي بيروح ع الجامعة لازم إخوته الباقين هون يقوموا بالعمل المترتب عليه كله.

ثانياً- بيستمر هالاتفاق لحتى يتخرج أول واحد (عليان) ويصير أستاذ، وبوقتها هوي بيصرف على إخوته، وبينتهي مفعول الاتفاق. 

قال الأستاذ مجيد: وما عرفتوا عليان صار أستاذ بأي اختصاص؟

قال كمال: طبعاً عرفنا. صار طبيب واختص بالجراحة العظمية.. ومع هيك كان أبو عليان إذا حدا ساله يقول: الحمد لله عليان صار أستاذ وفتح عيادة بحلب! 

  

      

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...