شمس بدران الرجل الغامض بسلامته (2 من 3)

09 ديسمبر 2020
+ الخط -

في موضع آخر من مذكراته يتحدث شمس بدران عن الدعاية الإعلامية الجبارة التي "نجحت في تصوير عبد الناصر على أنه يعيش في حالة تقشف وضنك، وأن طعامه ليس سوى كسرة خبز وقطعة من الجبن القريش كما أن أبناءه عاشوا حياة صعبة لم يستمتعوا فيها مثل غيرهم من أطفال مصر"، ويقول إن أغلب أكل عبد الناصر كان من الجبن، لكن ليس الجبن القريش الفلاحي، بل من الجبن السويسري ومن أفخم وأغلى الأنواع والتي كانت توجد في مخزن في منزله يضم أفضل المأكولات والمعلبات المستوردة، أما أولاده فقد كان سامي شرف يقوم برحلات متكررة إلى لبنان لشراء متطلبات أسرة الرئيس من الملابس حتى لعب الأطفال، ويؤكد أن ذلك كان أمراً طبيعياً ومن حق عبد الناصر وأسرته، لكن ما استفزه هو الصورة المزيفة التي قرر الإعلام أن يرسمها لعبد الناصر وأسرته.

لكن شمس بدران يؤكد على حرص عبد الناصر على المال العام وعدم تهاونه مع الفاسدين، وعدم مد يده إلى أموال الدولة، معتبراً أن التغير الذي وقع في شخصية عبد الناصر بدأ بعد محاولة اغتياله في ميدان المنشية عام 1954، لكنه تطور بعد عدوان 1956 بسبب حديث محمد حسنين هيكل المستمر عن الزعيم الأسطورة، "ووضع كل قدراته في استثمار النصر السياسي الذي تحقق ليصب في تأليه شخص واحد هو الرئيس، فبدأ عبد الناصر يتعامل مع رفاقه في مجلس قيادة الثورة بطريقة غير لائقة، ثم بدأ في محاولات التخلص منهم الواحد تلو الآخر، حتى انفرد بالسلطة السياسية بمفرده"، ولم يعد أحد يجرؤ على أن يناديه باسمه مجرداً، أو يا أخ جمال أو يا جيمي، منذ أن أطلق عليه السادات لقب "ريس" وطلب من الجميع أن ينادوه بذلك اللقب، وحين طلب عبد الناصر خلال افتتاح مجلس الأمة أن يدخل بمفرده إلى القاعة دون زملائه في مجلس قيادة الثورة أدرك هؤلاء أن دورهم انتهى ولم يعد مرغوباً بهم في الحياة السياسية.

يقول شمس بدران إن عبد الناصر كان مصاباً بالشك المَرَضيّ ولذلك كان يتنصت على تليفونات أقرب الناس إليه بما فيهم المشير عامر ومحمد حسنين هيكل وبعض أفراد أسرته، ولم يكن يكتفي بما ترسله إليه الأجهزة المختصة بل كان يمارس هذه المهمة بنفسه في بعض الأوقات، ويؤكد أن عبد الناصر سمح لمحمد أحمد صادق مدير المخابرات ومساعده إبراهيم سلامة بأن يستخدما أساليب التعذيب في الحصول على اعترافات المتهمين في قضية محاولة الانقلاب عليه بعد هزيمة 67 ومن بينهم عثمان نصار وحلمي عبد الخالق وحسين مختار وأحمد أبو نار وغيرهم، وأمر باستثناء شمس بدران وصلاح نصر وعباس رضوان من التعذيب الذي لم يكن يتم فقط في السجن الحربي، بل كان يتم في المباحث العامة وفي جهاز المخابرات العامة الذي تم التحقيق بداخله مع عبد القادر عيد أحد مديري مكتب المشير عبد الحكيم عامر، وتم إحضار زوجته إلى مبنى المخابرات العامة والتهديد بالاعتداء عليها أمامه وهو ما أدى بعبد القادر عيد إلى الاعتراف.

في تأكيد على علم عبد الناصر بما كان يجري في عهده من تعذيب لدرجة أنه كان يتابعه أحيانا عبر دوائر تلفزيونية مغلقة، يقول شمس بدران إنه حين قرر خلال التحقيقات التي أجريت سنة 1965 مع قيادات الإخوان أن يطلب من المباحث الجنائية العسكرية القيام بالتفتيش المفاجئ على الزنازين وغرف السجن الحربي للتأكد من سلامة معاملة المساجين، قال له عبد الناصر إن السجن الحربي هو مملكة مديره حمزة البسيوني، "فإذا حاولت التدخل في شئونه فيمكنه عرقلة عملك بتأليب المتهمين فأنصحك بأن تتركه حرا في مملكته"، وهو ما كشف له عن وجود اتصال مباشر بين حمزة البسيوني وعبد الناصر عن طريق سامي شرف، وتأكد من ذلك في أعقاب القبض على رجال المشير عامر عقب الهزيمة، والذين كان حمزة البسيوني أحدهم، لكنه كان الوحيد الذي يتمتع بالحرية الكاملة في المعتقل وتم الإفراج عنه بهدوء قبل بدء المحاكمة، كما لم يتم تقديم أي دليل لإدانته رغم أنه كان من المقيمين الدائمين في منزل المشير وحضر بعض الاجتماعات التي تمت في منزل المشير للتحضير لانقلاب على عبد الناصر.

لكن شمس بدران يرفض في الوقت نفسه أن يعترف بوجود عمليات تعذيب حدثت لقيادات وأعضاء جماعة الإخوان في السجن الحربي، ويقول إن عدد من مات منهم لا يتجاوز العشرة أفراد، وأنهم ماتوا من الخضّة، أو بنص ما قاله: "وهؤلاء لم يموتوا نتيجة التعذيب، بل بالصدمة بعد مواجهتهم بكل الأدلة والبراهين التي تثبت تورطهم"، مؤكداً أنه وقف ضد إعدام سيد قطب لكن عبد الناصر أصر عليه، ورافضاً ما نسبته له زينب الغزالي من حكايات عن تورطه في تعذيبها يصفها بأنها تندرج تحت بند الخيال المريض، مؤكداً أنه لا يشعر بوخز الضمير تجاه ما جرى لقيادات الإخوان، ولو عادت الأيام سوف يعيد فعل ما قام به تجاه قيادات الجماعة التي انضم إليها في أوائل الأربعينات وكان عضواً في شعبة تضم سعيد رمضان زوج بنت مؤسس الجماعة حسن البنا، لكنه خرج منها بعد أن تم التعامل معه بتعالٍ ولا مبالاة من مسئول قسم الطلبة، وانصرف عن الجماعة حين دخل الكلية الحربية في عام 1946، معترفاً أنه لكي يتجنب رفضه لأسباب صحية في اختبارات الكلية، قام بالتزوير واستخدم عينات دم تخص صديقاً له لكي لا يتم اكتشاف معاناته من فقر الدم والبلهارسيا.

 

في واحد من أهم مواضع مذكراته يتحدث شمس بدران عن زيارته الشهيرة للاتحاد السوفيتي التي سبقت هزيمة يونيو 1967، حيث طلب منه عبد الناصر أن يقوم بالزيارة التي سيتم تسليط أضواء إعلامية مكثفة عليها لكي يظهر لإسرائيل وللإعلام العالمي أن مصر تحظى بتعاون وثيق مع الروس

 

في واحد من أهم مواضع مذكراته يتحدث شمس بدران عن زيارته الشهيرة للاتحاد السوفيتي التي سبقت هزيمة يونيو 1967، حيث طلب منه عبد الناصر أن يقوم بالزيارة التي سيتم تسليط أضواء إعلامية مكثفة عليها لكي يظهر لإسرائيل وللإعلام العالمي أن مصر تحظى بتعاون وثيق مع الروس فيجبر ذلك إسرائيل على أن تفكر ألف مرة قبل أن تضرب ضربتها الأولى التي تؤكد جميع الشهادات أن عبد الناصر كان يتوقعها. يقول شمس إن عبد الناصر قام بعد الهزيمة بتحويل زيارته لموسكو إلى شماعة يعلق عليها أغلب أسباب الهزيمة، وأنه صُدم حين سمع عبد الناصر يقول في إحدى خطبه بعد اعتقال شمس: "شمس بدران نقل لي رسالة معكوسة وفهم موقف الروس خطأ"، ويعلق شمس على ذلك قائلاً: "ثم نقل هيكل عنه هذا الكلام في الأهرام، وأصبح الإعلام يردد هذه العبارة نقلا عن عبد الناصر باعتبارها سببا رئيسيا في الهزيمة، ثم أصبحت أنا المتهم المطلوب محاكمته، لأنني فهمت الروس خطأ، كأن عبد الناصر كان يعلق كل خططه وترتيباته على العبارة التي سأنقلها له من الروس! هذا العبث والتلاعب استمر فترة طويلة يتردد ويتبادله العامة في أعقاب الهزيمة".

يشن شمس بدران هجوماً حاداً على محمد حسنين هيكل في أكثر من موضع، ويحمله مسئولية الهزيمة بالاشتراك مع عبد الناصر، ويصفه بأنه كان المصري الوحيد الذي يزيد راتبه عن 5 آلاف جنيه في عهد عبد الناصر بقرار استثنائي من عبد الناصر الذي استفاد من تبرير هيكل لكل أخطائه، وأن هيكل كان دائماً ما "يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، لكنه يقرّ أن هيكل قام بنشر الحقيقة حول زيارته للاتحاد السوفيتي، وإن كان قد نشرها متأخراً، حين نشر ما حصل عليه من سجلات رئاسة الجمهورية عن الزيارة والتي تثبت أن شمس نقل بوضوح لعبد الناصر أن قادة الاتحاد السوفيتي قلقون من أي تصعيد مع إسرائيل لأنه قد يورطهم في مواجهة مع أمريكا لا يرغبون فيها، وأن شمس لاحظ قلق القادة السوفييت حين قال السفير أحمد حسن الفقي خلال اجتماع عقد في نادي الضباط "لدي ابن وأرحب بأن يذهب ليموت في حرب ضد الأمريكان"، فحرص على أن يخفف من قلقهم ويقول إن مصر ليس لديها نية التصعيد تجاه إسرائيل، وأنها برغم طردها القوات الدولية وإغلاقها خليج شرم الشيخ، ستسمح للسفن التي تحمل العلم الأمريكي أو البريطاني بالعبور، فتغيرت ملامحهم وتنفسوا الصعداء، ويؤكد شمس أنه نقل لعبد الناصر رسالة واضحة من القادة السوفييت وبالأخص من الماريشال جريتشكو تقول إن السوفييت لا يرغبون في الدخول في مواجهة مع الأمريكان ولكنهم سيتدخلون فقط لو تدخل الأمريكان بشكل مباشر وهو ما لم يحدث، لكن عبد الناصر كما يقول شمس بنى خططه واستراتيجيته على تفسيره للرسالة السوفييتية وليس على مضمونها الذي نقله شمس بوضوح ودقة.

يؤكد شمس بدران أن عبد الناصر تعامل بثقة مبالغ فيها مع قدراته على تحمل الضربة الأولى من إٍسرائيل، مع أن قائد الطيران قال له إن تلك الضربة ستدمر 80 في المئة من القوة الجوية المصرية، ومع أنه تلقى تقارير عن وجود حشود عسكرية إسرائيلية على الحدود السورية يوم 14 مايو 1967، وأصر على إلغاء تنفيذ الخطة (أسد) التي أمر عبد الحكيم عامر بتنفيذها يوم 27 مايو 1967 لامتلاك زمام المبادرة ضد إسرائيل، وحين التقى بالطيارين في قاعدة أبو صوير الجوية يوم 28 مايو 1967 وطالبوه بأن يسمح لهم بشن الضربة الأولى لأنهم أصيبوا بالملل من كثرة التدريب، لأن أي معركة بين مصر وإسرائيل تعتمد نتيجتها على من يقوم بالهجوم المفاجئ، وبعدها طلب عبد الناصر من مدير مكتبه سامي شرف إحراق الأشرطة التي تم تسجيل عليها ذلك اللقاء، وقال لعدد من قادته بالنص: "تحملوا الضربة الأولى واتركوا لي الأمر، وسأحقق لكم كل طموحاتكم"، وحين لم تتحقق تلك الطموحات وحدثت الهزيمة، نسي عبد الناصر ما قاله وحاكم القادة الذين اختلفوا معه، ومع أن شمس بدران كان على رأس قائمة الذين تم الحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، إلا أن عبد الناصر عرض عليه الإفراج عنه لو تقدم باعتذار عن مساندته لعبد الحكيم عامر وتحريضه له ألا يستسلم لإبعاده من الجيش، وكان لدى عبد الناصر أمل أن يساعده شمس بدران في السيطرة على ملف القوات المسلحة لو حدث ذلك، لكن شمس رفض واستمر في السجن حتى وفاة عبد الناصر.   

...

نختم قراءة المذكرات غداً بإذن الله.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.