سُعار التغطية الغربية حول فلسطين

25 أكتوبر 2023
+ الخط -

شيء من الغضب وصل حدّ السُعار، بات يُرافق التغطية الإعلاميّة الغربيّة المرافقة للحملة الإسرائيليّة على غزة، سعارٌ تجاوز المحلّلين السياسيين والعاملين في حقل السياسة إلى حملة الأقلام من صحافيين ومراسلين وكتّاب، وغيرهم ممن عُرفوا بمواقفهم الداعمة لإسرائيل.

ما عاد مسموحاً أن تُبدي تعاطفاً، ولو بسيطاً مع غزّة أو فلسطين؛ وإلا اعتُبِرت إرهابياً، فعصا تهمة الإرهاب الغليظة باتت تطاول كلّ شخص أظهر رأياً مخالفاً للنسق في الأحداث الجارية. مثلاً، إنّ مباركةُ المحلّل السياسي الأميركي، بن شابيرو، لما أدى إليه القصف الإسرائيلي من قتل عدد كبير ممن وصفهم بأبناء العاهرات، وما عدّه أنّ مجرّد إبداء التعاطف مع سكان غزّة المدنيين جريمة أكبر من معاداة الساميّة ولا تقلّ خطراً عن النازيّة، هو مجرّد سعار بطبيعة الحال لا يقف عنده أحد؛ إذ بات المطلوب في كلّ الدوائر الإعلاميّة وصنّاع الميديا، وفي بداية كلّ مقابلة إعلاميةّ، إدانة ما قامت به حماس قبل كلّ شيء. هذا أيضاً سعار، وهو نفسه السعار الذي أوقع الرئيس الأميركي جو بايدن، ضحيّة التضليل الصهيوني، فظهر بموقف الدجال المفضوح، إذ سقط في شرك الكذب الصريح فيما يتعلّق بتأكّده من أنّ حماس قطعت رؤوس أطفالٍ يهود! هذا السعار نفسه هو من أوقع مقدّم البرامج الحصيف، بيرس مورغان، في شرك ترداد هذه الكذبة الكبرى أمام إحدى ضيفاته، مُبدياً ما يستحق الأمر من أسف، وهو الأمر نفسه الذي ادّعى أنه لم يردّده أمام "الماكر" باسم يوسف الذي صدمه بمقاربات مذهلة. هذا السعار هو نفسه الذي ما زال يدفع كثيرا من الصحافيين لطلب إدانة هذا الفعل رغم نفيه الرسمي من قبل الإدارة الأميركية.

لم ينته الأمر هنا؛ فحلقة السعار كبرت وأخذت تطارد الناس، فبالقدر نفسه الذي لُوحق فيه البسطاء المتعاطفون مع القضية الفلسطينية، سواءً عبر الدعوات للتظاهر أو من خلال رفع العلم الفلسطيني، أو حتّى من خلال السوشيال ميديا، ثمّة دعوات الآن في السويد لتجريد المجنّسين ممن أبدوا تعاطفاً مع الفلسطينيين من الجنسيّة، وكذلك الأمر في ألمانيا التي تعاني تضخّماً في عقدة الذنب تجاه اليهود؛ ولذلك خرجت فيها دعوات لترحيل اللاجئين المتعاطفين مع الفلسطينيين، أليس هذا سُعاراً؟

بالقدر نفسه تتم مطاردة المؤثّرين والمشاهير من الأشخاص الذين لهم أعداد مهولة من المتابعين، ولهذا دعا عدد من البرلمانيين الفرنسيين إلى تجريد اللاعب كريم بنزيمة من الجنسية، ووصفوه بالإرهابي المسلم، الأمر نفسه دفع محمد صلاح ليبقى متربّصاً لا يعرف كيف يصنع، في حين أنّ عدداً آخر من لاعبي كرة القدم المغاربة هُدِّدوا بإنهاء عقودهم مع أنديتهم الأوروبيّة في حال أبدوا أيّ تعاطف مع الفلسطينيين، وقد تمّ بالفعل فسخ عقود عدد منهم. الأمر نفسه نجده أيضاً في الولايات المتّحدة، ولو بصورة أقل وضوحاً، إذ إنّ موقف جيجي حديد وشقيقتها بيلا ما زال محايداً بالمقارنة مع ميا خليفة؛ رغم أنّ للشقيقتين فلسطينيتي الأصل باعاً في دعم القضية الفلسطينية والدفاع عنها.

ما عاد مسموحاً أن تُبدي تعاطفاً، ولو بسيطاً مع غزّة أو فلسطين؛ وإلا اعتُبِرت إرهابياً

يبقى العربي والمسلم عموماً في أوروبا وأميركا يعيش مهدّدا تحت وزر الإرهاب في حال حاد عن هذه الطريق المرسومة، تسقط يافطة حرية الرأي من تلقاء نفسها حينما يتعلّق الأمر بواحدٍ منهم، وتمارس السلطات المحليّة العسف والقمع وتكميم الأفواه في مثل هذه الظروف. لكنّ أمراً طارئاً حدث هذه المرّة، وبلغ من الأثر أن دفع مؤيّدي إسرائيل إلى موجة الهذيان والسعار الراهنة، إنّها المرة الأولى التي تجد فيها الحقائق طريقها إلى المشاهد الغربي، وهو بطبيعة الحال مواطن يدفع الضرائب، لا مواطن مجنّسا أو ملوّنا من الدرجة الثانية، وغير مكتسب لحق اللجوء، هذا المواطن ليس من السهل معاملته بمنطق العصا الذي يتم من خلاله التعامل فيه مع أولئك الآخرين، إنّها مهمة صعبة أن تمنع جمهور ليفربول أو أوساسونا من رفع الأعلام الفلسطينية أثناء المباريات. في الواقع، نحن لا نعدم في العالم الغربي أن نجد متعاطفين مع القضيّة الفلسطينيّة، لأسباب موضوعيّة كما في إيرلندا حيث تشيع مناصرة القضية الفلسطينية بين الإيرلنديين على خلفية صراعهم التاريخي مع إنكلترا، كما نجد ذلك في شيكاغو بين السود والملوّنين على خلفية الاضطهاد والعنصريّة اللذين عانوا منهما دهراً في أميركا.

إنّ ما يجب الانتباه إليه هو الهياج الرسميّ الذي وصل حدّ السعار والكلب في محاولة كسر أو منع التعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة، ولعلها المرّة الأولى التي يتحطم فيها السور الإعلامي الحصين الذي طوّق المعلومات والحقائق المتعلّقة بغزة أو فلسطين. إنّها المرّة الأولى التي تتسرب فيها الصور والمعلومات والفيديوهات سالكة طريقاً أخرى غير السي أن أن والفوكس نيوز والبي بي سي وغيرها من محطّات إعلامية تصنّع الأخبار والأحداث. كان وارداً جداً أنّ العصا الغليظة أرادت تحطيم كلّ من يروّج للأخبار بعيداً عما تعتبره إسرائيل وداعموها حقائق، إلى درجة أنّ الأموال التي خُصّصت للدعم العسكري وحماية إسرائيل بات قسمٌ منها يوّجه للدعم الإعلامي أكثر مما مضى، إذ يبدو أنّ الحاجة للمال باتت أكثر إلحاحاً، فالأرصدة الحاليّة ما عادت تكفي لمواجهة الإعلام البديل، وهذا السعار ليس إلا محاولة يائسة لتخفيف أثر السوشيال ميديا، لقد أصبح من العسير تغيير التصريحات أو تعديلها، أو حذف الميديا التي تدين أولئك الذين لديهم حقّ إلهي في الدفاع عن أنفسهم، أو منع الجمهور من الوصول إلى مواد بعينها.

 في الواقع لقد انطلقت معركة موازية ميدانها شبكة المعلومات العالمية، لكنّ الخصوم هناك تفوق أعدادهم أعداد الفلسطينيين، وهناك يقف السلاح المتطوّر عاجزاً، هناك حيث تراق الأموال وتهدر من أجل ترميم الأسوار الإعلاميّة الحصينة التي تهدّمت بصورة تفوق كثيراً ما حدث في سور غلاف غزّة.

ما لم تستطع تحقيقه بالقوة تستطيع تحقيقه بمزيد من القوة، قد لا تنفع هذه المعادلة، إذا أصبح المتغيّر هو المال، ما لم تستطع تحقيقه بالمال لن تستطيع تحقيقه بمزيد من المال. المرشّح الجمهوري، رون ديسانتس، طالب أحد المواطنين أن يكون حذراً من مشاهدة الجزيرة، لقد فات هذا المتخلّف أنّ الإعلام البديل وضع الجزيرة والسي أن أن وكلّ ما يريد من مواطنيه متابعته أو عدم متابعته خلف ظهره، فعشرات الآلاف من صانعي المحتوى والمؤثرين باتوا الآن أكثر وثوقيّة؛ أو هم على أقلّ تقدير مصادر متعدّدة للخبر. ثمّ إنّ الأخبار أخذت تتسرّب من منصّات أخرى لا تخضع لمعايير "فيسبوك"، وهي منصات من العسير استثمارها أو ابتزازها، فمنصّة متل "تيك توك" مثلاً، أصبحت تشكل أرقاً لصنّاع الأخبار في العالم، ومن الواضح إلى الآن أنّ صاحب منصة إكس (تويتر سابقا)، إيلون ماسك على الأقل لم ينصع لما انصاع إليه الباقون. إنّ الأخطر مما سبق هو ظهور عدد كبير من المؤثرين وصنّاع المحتوى الذين بالرغم من اختلاف أيديولوجياتهم وتوجهاتهم باتوا أكثر جدوى لمعرفة الخبر وتحليله، وهؤلاء بالذات يصعب إسكاتهم، فأعدادهم كبيرة ومتابعوهم بالملايين، أصوات كثيرة منهم في الغرب نفسه بدأت تتحدّث أنّ الفلسطينيين عانوا طوال 75 عاماً من الاحتلال، وتحدّثوا عن أكبر سجن مفتوح، وعن نظام الفصل العنصري، وشكّكوا بقصة قطع رؤوس الأطفال، ووجدوا أنّ إسرائيل هي من قصفت المشفى المعمداني، لقد تسرّبت الصورة الحقيقيّة على حين غرة، وانفضح الكذب والتضليل، وبات الخطاب الإعلامي الكلاسيكي البائس موجّهاً لشريحة من المؤيّدين والداعمين المُضلَّلين الذين يتناقصون شيئاً فشيئاً.

لقد غدا التفوّق الأخلاقي المزعوم فضيحة كبرى، أنت الآن مجرّد مجرم كبير، وداعموك ليسوا أقل إجراماً منك، لقد أطاح الإعلام البديل تلك السطوة الإعلامية وما عاد ممكناً اليوم تطويق العالم أو إتخامه بأخبارك المزيّفة.

 فكر بطريقة جديدة؛ قد تبدو فكرة العودة إلى عالم بدون إنترنت أكثر عقلانية من ادّعاء دور الضحيّة والسعي لجعل سرديّتك حقيقة مطلقة.