سيرة متميزة لرجل استثنائي
هناك أشخاص مثل أوراق اليانصيب، نجرب إيجاد حظنا فيهم ومعهم. تلك سُنة تسري على الناس العاديين، فما بالك إن تعلق الأمر بجان جاك روسو؛ أحد الرجال المتميزين في التاريخ الفكري للإنسانية، الذي لم يقنع بالتميز فسعى إلى أن يكون استثنائياً، مع اتخاذ قرار بمشاركتنا مرتبة ورحلة الاستثناء تلك عبر تدوينها في سيرة ذاتية عنوانها "الاعترافات"، ميزتها أنها الأجود والأفخم في التاريخ الحديث والمعاصر لأن مضامينها وأسلوبها وكذلك دوافع وغايات كتابتها تجسد مجتمعة صورة رقراقة للإبداع البشري وتوقه العظيم والمضني إلى الفضيلة والحقيقة.
إن الامتياز الوحيد لهذه السيرة الذاتية هي إلقاؤها الضوء بشكل شفاف وصريح على الطبيعة الأصلية لإنسان صادق وهو يبسط تجارب حياته أمام قرائه بلا مسحوقات تجميل نفسية أو فكرية، تاركاً لهم حرية التصرف في النظر والحكم.
قضية يستشعرها القارئ عندما يبدأ روسو اعترافاته، مشيراً إلى أنّه بصدد إنجاز مشروع لا مثيل له منسجم مع شخصيته المتفردة التي انجلت ملامحها منذ لحظة ولادة كلفت الأم حياتها. كأننا أمام نبوءة ميلودرامية تفيد أن العظمة التي حصل روسو على نصيب حسن منها في الفكر والمسرح والموسيقى وبين الأوساط الراقية، كلها لم تكن إلا محاولة لرد هذا الديْن الثقيل للحظة الولادة.
لعل روسو لمح مراراً إلى حقيقة الجواب. لكن الأكيد أنه كشف بشكل صريح عن أقصى تناقضات النفس وغرائبيتها بتقديم نفسه كتجربة سريرية لحقيقة البشر باعتبارهم لغزاً جميلاً
دين ألقي عل كاهل إنسان هزيل. كان طفلاً سقيماً بآمال عظيمة غذّتها النساء دوما بالدافع للخروج إلى الواقع. بدءا من لقائه العاصف بمشاعر الأمومة والحب اتجاه مدام دي فاران، مروراً بالسيدة لوكسومبورج ومدام ديبيناي، وانتهاء بشريكته في الحياة تيريزا.
ففي كل صفحة يدور فيها الحديث عن الحب والإحباط والنجاح والمكائد إلا وكانت المرأة حاضرة بقوة في ريشة روسو. وهل يعوض اليتم المبكر والصرخة الأولى اليتيمة للمولود أعظم إنجازاته؟
لعل روسو لمح مراراً إلى حقيقة الجواب. لكن الأكيد أنه كشف بشكل صريح عن أقصى تناقضات النفس وغرائبيتها بتقديم نفسه كتجربة سريرية لحقيقة البشر باعتبارهم لغزاً جميلاً.
فروسو هو الشخص نفسه الذي تبوأ أسمى سلالم المجد لدرجة سعى الملوك والدوقات والوزراء وعِليةُ القوم إلى الظفر بجلسة واحدة معه، بمن فيهم فريدريك الملك الأشهر لبروسيا وأوروبا آنذاك. لكنه أيضا الرجل ذاته الذي عانى الذل والهوان و الاحتقار إلى حد قذفه بأشنع النعوت التي تلاها رميه بالحجر لأنه فكر بطريقة مختلفة في أمور الدين والدنيا.
كذلك روسو كان متمسكاً بالفضيلة لدرجة خصص أجراً ثابتاً لأناس ظلموه، لكن الرذيلة كانت من اختياراته وجعلته يضع أولاده الخمسة في ملجأ مخصص لإيواء اللقطاء. هو الشخص ذاته الأكثر ذوقاً وثقافة وعلماً، حيث كانت أفكاره في "العقد الاجتماعي" حطباً لثورات ممالك ودول، عاش في كنف تيريز المرأة الأمية التي خلطت ذات يوم بين صديقه الراهب والبابا.
تلك ومضات ضئيلة فقط من مجريات سيرة ثرية تغري بقراءتها لا السماع عنها فحسب،كونها ضمانة حقيقية للمنفعة والمتعة، فصاحبها جامع لرحيق الفكر والأدب، جعل من مؤلفه كتاباً مفتوحاً يجد فيه كل قارئ ذاته ما دام روسو قد نصب نفسه ناطقاً رسمياً باسمنا. سِمة ستجعله لا محالة مثيراً للجدل أو الشفقة أو التأنيب، لكن الثابت أنه مثير للإعجاب.