سيرة العقل والجنون (9)
تابعتُ، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، روايةَ ما جرى في ابتدائية "عمر بن الخطاب" بإدلب، فقلت إن الأستاذ علاء، مدير المدرسة، تمكن من إقناع معلم الصف الأول، الأستاذ عبد الله، بالتراجع عن فكرة الاستقالة، ووعده بإزالة السبب الذي قرر الاستقالة لأجله، ألا وهو انزعاجه الشديد من صوت أطيط جاروخ الفتى "فريد" على الأرض.
قال علاء: الله يطول لنا عمرك يا أستاذ، صدقني مو حلوة بحقك تستقيل منشان جاروخ! إذا الناس عرفوا إنك استقلت، وإنه السبب جاروخ، أيش بدهم يقولوا؟ خيو، أنا مستعد أصرف عشرين ليرة من ميزانية "التعاون والنشاط"، وآخد فريد على سوق القندرجية، وأفصّل له صباط جديد. وحتى ما يصدُر عن الصباط صوت يزعجك لما بيمشي في الصف، بخلي القندرجي يركب له ضبان "سختيانة" من تحت.
أعجب صديقي أبو ابراهيم بحكاية الجاروخ والصباط، وقال: عن إذنك أبو المراديس، أنا خايف ما يكون هالصباط اللي بدهم يفصلوه لفريد متل الصباط اللي فَصَّلُه أبو الفوز لأبو زياد عند القندرجي سنة 1959. على فكرة قصة صباط أبو زياد رائعة.
أبو محمد (متشوقاً): إذا قصة رائعة أشو مستني؟ تفضل احكيها.
أبو إبراهيم: كان أبو زياد منَظَّم في الحزب الشيوعي، وعلى أيام الوحدة مع مصر صارت حملة اعتقالات للإخوان المسلمين والشيوعيين في آن واحد. بوقتها أهل إدلب كانوا عم يسمعوا بنغمة الاعتقالات لأول مرة، وصارت سيرة المعتقلين على كل لسان في البيوت والمقاهي وأماكن العمل. وكانت تجي أخبار إن مخابرات "المكتب الثاني" لما بيعتقلوا شخص معين ما بيكتفوا بسجنه، إنما بيعذبوه، والمخيلة الشعبية كانت تضيف قصصا وحكايات عن فظاعة التعذيب، أبرزها تَدويب المناضل الشيوعي فرج الله الحلو بالأسيد، والمجتمع لما يسمع بهالقصص صار فيه حالة رعب. المهم إن أبو زياد ما حدا اعتقله، لأن على ما يبدو رفاقه المعتقلين ما اعترفوا عليه.
وفي يوم من الأيام راح أبو زياد لسوق القندرجية، ودخل دكان القندرجي أبو الفوز وطلب منه يفصل له صباط جديد. والأمر تم، وفي اليوم المحدد استلم أبو زياد الصباط ودفع حقه، وراح ع البيت، ولبسه، وتفاجأ بأنه ضيق على رجله، فحمله ورجع لعند أبو الفوز، وطلب منه يفصل له واحد غيره، لأنه هادا عم يعص على رجليه. رفض أبو الفوز التبديل، وقال له: البسه لا تخاف، عاللبس بيرتخي وبيصير متل العلكة!
بعدما طلع قام عبد الله وسكر الباب، وبلش يحكي لعلاء عن الفصول اللي بيعملها فريد في الصف، يعني الشغلة ما توقفت عند الطَشّ بالجاروخ
لبس أبو زياد الصباط يومين تلاتة والصباط ما ارتخى، ولا صار متل العلكة، بالعكس صار يشعر بأن رجليه تورموا، ومرة تانية راح لعند أبو الفوز، وطلب منه التبديل، فرفض.. ووقتها أبو زياد قال له، على طريقة أفلام السينما: حَ تندم يا جميل!
رد عليه أبو الفوز: أي روح اعمل اللي بدك ياه. إيدك وما تطول.
بعد شي ساعة زمان، في ناس صاروا يمروا من قدام دكان أبو الفوز ويلتفتوا عليه ويضحكوا. استغرب أبو الفوز، لأن كل اللي مرقوا قدام الدكان كانوا عم يضحكوا.. نادى لواحد منهم، وطلب منه يحكي له ليش عم يضحكوا الناس؟ فحكى له إن أبو زياد واقف عند مدخل السوق، وعم يقول إن جماعة المكتب الثاني كتير بهايم وطشومة، بيجيبوا المعتقل وبيعذبوه لحتى يعترف بأنه إخونجي أو شيوعي. مع أن في عندهم حل سحري، إذا بيفصّلوا للمعتقل صباط عند أبو الفوز، وبيجبروه يلبسه، فوراً بيعترف!
ضحكنا، وقالت أم زاهر: بالفعل قصة حلوة، وذكية. خلونا بقى نرجع لقصة فريد.
أبو المراديس: فينا نقول إن الأستاذ علاء والولد فريد صار بيناتهم حالة من التواطؤ، لأن علاء، بعدما أقنع الأستاذ عبد الله بالعدول عن الاستقالة، أخد فريد وراح على سوق القندرجية، وبوقتها فوجئ بأن قياس نمرة قدم فريد متوفرة، فضحك وقال لفريد: ولاك كذاب، كيف قلت لي إنه أبوك ما لقى قندرة على قياس رجلك؟
ابتسم فريد وقال له: أستاذ أنا ما بحب لبس القنادر. الجاروخ أرْيَح. بس هلق خلص، كرمالك بلبسها. ولما برجع ع البيت بلبس الجاروخ.
بعدما اشترى علاء الصباط لفريد، اشترى له جوارب، وقال له: البس لأشوف.
هون صارت مشكلة زغيرة، خيط من فردة الجورب علق بظفر إبهام قدم فريد، والخيط طلع من مكانه، وما عاد يقدر يلبسها، بوقتها فريد حنى راسه لتحت، ولقط الخيط بأسنانه، وقطعه، وضحك، وتابع اللبس، ولما لبس الفردة التانية غطى ظفر الإبهام بأصابعه، ولما انتهت العملية ابتسم، ولبس الصباط، وقال لعلاء: أنا جاهز!
ولما طلع برات دكان القندرجي، شاف فريد كومة حجارة، صار يبحبش فيها، وطمر الجاروخ، وكوم فوقه حجار، وقال لعلاء: أستاذ حطيت له علامة، منشان لما إرجع ألاقيه.
خلال سلسلة العمليات المعقدة اللي عملها فريد، ما توقف علاء عن الضحك، والحقيقة أنه كلما تعمقت معرفته بفريد عم يزداد إعجابه فيه، وقال لنفسه إنه ممكن هاي المدرسة تستمر بتعليم التلاميذ مية سنة تانية، وما يجيها تلميذ متل فريد، بالفعل هادا تلميذ فريد من نوعه! ولما رجع الثنائي (علاء- فريد) ع المدرسة، كان في بيناتهم تَنَاغُم.. علاء راح ع الإدارة، بينما راح فريد ع الصف، نقر الباب بكل تهذيب ودخل، وقال للأستاذ عبد الله: تفضل أستاذ لنروح أنا وأنت لعند المدير. هوي طلب مني أبعتك.
ولما صاروا عند علاء، قعد عبد الله على الكرسي، وبقي فريد واقف بكل احترام.. علاء مد إيده باتجاه أقدام فريد وقال: شوفة عينك. تلميذنا المهذب صار عنده صباط جديد من الوكالة. فينا نقول وداعاً لعملية الطَشّ بالجاروخ!
عبد الله: طيب. روح إنت يا فريد، اسبقني ع الصف.
وبعدما طلع قام عبد الله وسكر الباب، وبلش يحكي لعلاء عن الفصول اللي بيعملها فريد في الصف، يعني الشغلة ما توقفت عند الطَشّ بالجاروخ.
علاء (متشوقاً): فصول؟ أيش بيعمل كمان؟
عبد الله: خليني هلق أروح ع الصف، ولما بينصرفوا التلاميذ منقعد أنا وأنت وبحكي لك عن فصوله.
أبو المراديس: طبعاً راح أحكي لكم تتمة القصة. لكن نحن كمان ناخد استراحة.
(للقصة بقية)