سيرة العقل والجنون (18)

19 ديسمبر 2020
+ الخط -

لخصت للأصدقاء الحاضرين في سهرة الإمتاع والمؤانسة ما رواه أبو الجود من سيرة الشاب المليونير "بَكَّـار"، بأن علاقته بالمجانين وصلت إلى مستوى إعداد مكان لهم في منزله، بقصد إيوائهم، وإطعامهم، والسهر معهم، ومحاورتهم في قضاياهم الشخصية.

أبو الجود أثنى على صحة تلخيصي للقصة، وأضاف:

- الغريب في الأمر موقف الحاجة أم بكار. أنا لما شفت أم بكار شلون عم تتعامل مع المهابيل، وعم تداريهم، وتعطف عليهم، تذكرت أمي الله يرحمها لما كانت عم تشطف قدام باب دارنا ومر المجنون "طَقّ مْصَدّ"، وكانوا رجليه مليانين طين، فوسَّخ بدوساته البلاطات اللي هيي غاسلتهن. يوميتها أمي طق عقلها، صاحت فيه صوت خلته يتيبّس، وركضت عليه، وضربته بالمكنسة على وجهه وعلى مؤخرته، وهو يولول وهيي تقله: ليش ما بتدير بالك لما بتدوس؟ يلعن هبالك يا مهبول الكلب يا طَقّ مْصَدّ، والله لأشكيك لأمك.

أبو جهاد: أمك الله يرحمها كان معها حق. هادا المجنون طَقّ مْصَدّ كتير غليظ.

ضحك الأستاذ كمال وقال:

- أشو عم تقول أبو جهاد؟ يا زلمة طَقّ مْصَدّ مجنون، وين المشكلة إذا كان غليظ؟ يعني بدك إياه يكون مجنون حساس وجنتلمان؟

أبو الجود: والله أمرك غريب يا أبو جهاد. لك خيو طَقّ مْصَدّ مجنون، لكن المفروض إن أمي عاقلة، ومو معقولة تحط عقلها بعقل واحد مجنون.

حنان: يا أبو الجود، أنا بدي أقول لك فكرة. أمك مو مجنونة، بس أكيد كانت معصبة، وتعبانة، وأعصابها مشدودة، وبعدما نضفت داس طَقّ مْصَدّ برجليه ونزع لها كل شي.

أبو الجود: لو عصبت وصرخت، وبعدين سكّرت عالموضوع منقول إنه كلامك صحيح يا ست حنان. بس اللي صار إنها انتظرت لحتى رجع أبوي ع الدار، وتخانقت معه.. صارت تقله إنت رجل ما إلك نفع ولا إلك لزوم، ولا إلك هيبة في هالضيعة، لو إلك هيبة ما كان واحد مجنون نهستر متل طَقّ مْصَدّ تجاسر وداس قدام باب دارك. أبوي بوقتها مو بس ضحك، بقي يضحك لحتى وقع على ظهره، وصار يقول الله يعطينا خير هالضحك. أختي "جميلة" أخد على خاطرها من أبوي وقالت له:

- ياب أمي عم تحكي لك على هالمجنون اللي جقجق قدام باب الدار بصباطه، أنت صرت تضحك. طيب ليش؟..

أبوي صار يضحك أكتر وقال لأختي:

- جقجق قدام باب الدار بصباطه؟ ليش طَقّ مْصَدّ كان لابس صباط؟ ولك هادا أنا بعرفه من لما كان ولد زغير. هوي إسمه "وحيد". كان طول النهار يمشي في الأزقة حفيان، ومرة كنا أنا وكام واحد من رجال الضيعة ع البيدر وأجا أبوه، وسألناه (ليش ما بتشتري لوحيد صباط أو جزمة أو جاروخ؟) قال: لأن من شي سنة اشتريت له جزمة، ضَيَّع الفردة اليسرى، وبقي عم يمشي بالفردة اليمنى، بوقتها صاروا الناس ينادوا له "أبو فردة وفردة"، بعدين شلح الفردة التانية ورماها ع المزبلة الشرقية ورجع صار يمشي حفيان، بعدين صار يلعب بالدحل، وكلما ضرب بالدحلة يصيح: طَقّ مْصَدّ طَقّ مْصَدّ.. ومشي عليه هادا إسم طَقّ مْصَدّ، وجن. بعدين أبو وحيد مات الله يرحمه، وهوي من يومها ما لفى على بيت أهله، وصار ينام في حاكورة سليمان آغا المهجورة. لما أبوي قال هالحكي أمي عصبت أكتر، وصارت تحكي مع أبوي كلام تقيل، وقالت له:

- أنت رجل قليل الحيلة، لا للصيف ولا للضيف ولا لغدرات الزمان، الحق علي أنا إني جيت واحتميت فيك. على كل حال أنا ما راح أسكت عن هالشغلة.

وراحت لعند أم وحيد، وحكت لها اللي صار، وكيف إبنها طَقّ مْصَدّ داس ع الأرض بعدما شطفتها.. وبوقتها أم وحيد جاوبت أمي جواب غريب من نوعه.

أم زاهر: أيش جاوبتها؟

- قالت لها: حقك على راسي يا أم عبد المجيد، وإنتي مو بس صديقتي، أنا وإنتي قرايبين، لأن نانتك أم أمك، الله يرحمها، بتكون بنت خالتها لنانتي أم أبوي، الله يرحمها، منشان هيك والله، وبالله، ما بخليكي تروحي من هون غير راضية.

سألتها أمي: شلون بدي أكون راضية؟ يعني راح تأدبيه لإبنك المجنون طَقّ مْصَدّ؟    

ردت أم وحيد على أمي بكل جدية وقالت لها:

- لو كان هون كنت بأدبه، وبربيه، وبكسّر العصاية على مؤخرته، بس ورحمة نانتك أم أمك ونانتي أم أبوي إني من شهرين ما شفته، الله يعدمني ياه، طول النهار داير في الأزقة، وبالليل بينام في حاكورة سليمان آغا. مرة أنا رحت ع الحاكورة لحتى أستفقده، وأخدت له معي زوادة، لما شافني شمع الخيط وهرب، وصارت الغبار تعجّ وراه.

قالت أمي: يا أم وحيد، لكان شلون بدك ما تخليني أروح من هون غير رضيانة؟

أم وحيد: هلق بتشوفي شلون.

وجابت أم وحيد كرسي، وطلبت من أمي تستريح. ودخلت ع الدار، جابت سطل مليان مي، ومكنسة، وبلشت تشطف قدام باب الدار، لحتى صار كتير نظيف، بعدين جابت طشت فاضي وحطته قدام أمي، وأخذت قطعة كرتون وراحت ع حديقة الدار، صارت تغرف تراب أحمر وتجي تصبه في الطشت، لحتى تعبى، وجابت مَيّ وصارت تدلق ع التراب، وصارت تخلطه لحتى صار طين، وطلبت من أمي تحط رجليها في الطشت، لحتى تلوتوا بالطين، وسحبتها من إيدها وصارت تمشيها فوق الأرض المغسولة لحتى تجقجقت. هون أمي عصبت بزيادة وقالت لأم وحيد:

- بيقولوا إبنك طَقّ مْصَدّ مجنون. والله ما حدا مجنون غيرك يا أم وحيد. عملتي رجليي طين وخليتيني أجقجق لك؟ هلق هيك بيكون وصلني حقي؟

ضحكت أم وحيد وقالت لها:

- أنا مجنونة يا أم عبد المجيد ولا إنتي اللي جاية من حارة لحارة حتى تنتقمي من ولد مجنون داس برجليه على الأرض اللي حضرتك غاسلتيها؟!!!

(للقصة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...