سمر رمضاني في إسطنبول (2)
كان موضوع سهرتنا الماضية هو حاجةُ الناس في شهر رمضان للتسلية، والضحك، وقد استغرقنا السهرة كلها في مناقشة فكرة كان أستاذُنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قد طرحها في كتابه "البخلاء"، وهي أن الضحك يساعد على الهضم.
(ملاحظة: ربما كانت كلمة "مهضوم" التي تُقال عن الرجل الظريف الذي يُبدع في التنكيت والإضحاك مقتبَسة من فكرة الجاحظ).
قال كمال إن حاجة الصائمين للتسلية والضحك كانت سبباً أساسياً في كثرة البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تُنْتَجُ خصيصاً لأجل رمضان، ووراء هذا الأمر، في الحقيقة، دافع اقتصادي، فالمحطات التلفزيونية التي تَعرض أقوى المسلسلات في رمضان تستفيد مادياً من الإعلانات التي تتخلل المسلسل أكثر مما تستفيد المحطاتُ التي تعرض مسلسلات ضعيفة، وبالتالي تكون الإعلانات فيها قليلة ورخيصة.. والإعلانات، كما يقول أهالينا، تشبه الغصة الموجودة في حب الآس، أو في ثمار السفرجل، وهناك مثل شعبي يقول: (أيش بعمل فيك يا سفرجل؟ كلك منافع، ولكن كل عضة منك بغصة).. يعني، باختصار، الإعلان أصبح مصدر إزعاج للمشاهدين، لأن قَطع أحداث المسلسل لأجل عرض الإعلانات يحدث في أجمل مكان من الحلقة، فيتذمر الناس ويقولون كلاماً سيئاً بحق الإعلانات والذي اخترعها..
ولأن استغلال المشاهدين الرمضانيين أصبح هدفاً لتلك المحطات، فقد أصبحت الإعلانات التي تحدد مواعيد عرض بعض المسلسلات تتضمن عبارة تشجيعية هي (سيعرض بدون إعلانات)! وأما مسلسل باب الحارة، الذي يقدم مدينة دمشق باعتبارها مدينة متخلفة، رجالُها يحتقرون المرأة ويذلونها، فقد حقق شعبية كبيرة لدى المشاهدين في مختلف أنحاء العالم العربي، باعتبار أن الذكوريين (كلهم في الهَوَا سَوَا).. ومن هنا اهتدت الشركة التي تتبنى الأجزاء المتلاحقة من هذا المسلسل إلى فكرة تجارية بارعة، فأخذت ترسل لمشتركيها رسائل عبر الواتساب، تُخبرهم فيها أنها مستعدة لأن ترسل لمن يدفع نقوداً إضافيةً حلقاتٍ لم يحن وقتُ عرضها من "باب الحارة"، ليراها المشترك المستهدَف قبل أن تعرض على الشاشات، وبهذا يصبح هذا المشاهد العجيب في موقف متميز، يمكنه أن يذهب إلى المقهى بعد الإفطار، وعندما يتسامر الخلان في أحداث باب الحارة يقول لهم، بنفس الحماس الذي يمتلكه عالم الفيزياء عندما يعلن عن تمكنه من الدخول إلى التركيبة الأساسية للذرة وأنها تتألف من نترون وتدور حوله الإلكترونات:
- طيب بتعرفوا شو راح يعمل العكيد أبو شهاب مع المستشار الفرنساوي الحقير في الحلقة الجاية؟
يردون عليه بلامبالاة: أي شو معرفنا؟ قالوا لك نحن اللي كتبنا المسلسل أو صورناه أو مَنْتَجْنَاه؟
فيتصدر إلى الخلف ويقول: بس أنا بعرف!
فيندهشون، وهو يحكي لهم، بالتفصيل الممل، تلك التفاصيل الهايفة التي ستجري في الحلقة القادمة، وعندما تُعرض الحلقة القادمة، ويتضح لرفاقه أن كلامه صحيح، يصابون بالذهول من شدة الإعجاب بهذا الكائن السوبرماني الذي يعرف كل شيء، وحينما يمتدحون ألمعيته يتصدر مرة أخرى، أو كما يقول أهل منطقتنا (يطَنّب)، ثم يتواضع قليلاً ويذكر لهم مصدر معلوماته، فيأخذون منه عنوان الشركة الموزعة، والرابط، ويشتركون بالحلقات القادمة من باب الحارة ليعرفوا لماذا طلق أبو عصام حرمته، وصار ينام في الدكان، وبماذا سيتصرف أبو النار، وهل سيجرؤ أبو فلان على زوجته فيضربها بالبوكس على وجهها، أم سيجبن ويتخاذل؟ وهذه المعلومات، بلا شك، تفيد الأمتين العربية والإسلامية في حاضرهما ومستقبل أبنائهما..
أخبرني صديق مقيم في دولة خليجية أنه كان يذهب مع رفاقه يومياً بعد الإفطار للعب الورق وتدخين الشيشة في المقهى، وعندما يحين موعد باب الحارة يلقي الجميع ورق الشدة، ويتوقفون عن البقبقة بالشيش، ويتابعون الأحداث الهايفة وكأن على رؤوسهم الطير.. ولكن هذا كان في البداية، وأما بعد اختراع فكرة الحلقات التي تأتي للمشترك على موبايله قبل أوانها فقد صار المسلسل يُعرض في المقهى والناس لاهية منشغلة بالورق وبقبقة النراجيل، فسبحان ربك الذي هدى المخترعين الأجانب لاختراع هذه التقنيات التي تنفعنا في حاضرنا ومستقبلنا نحن أبناء هذه البلاد المنكوبة.
أبو زاهر: كلامك كله صحيح يا أستاذ كمال. إنته عم تحكي عن شي جديد، يعني هلق على زمان شركات القطاع الخاص اللي بتسعى للربح، لكن على علمي قبل هَالتاريخ كان التلفزيون تابع للدولة، وما كان في داعي يخترعوا أساليب حتى يحصلوا مصاري من الناس، لأن تلفزيون الدولة ما بيهتم للربح.
كمال: معك حق 100% أبو زاهر. أنا بصراحة أخدني الحديث واسترسلت ووصلت لهون. على فكرة، قبل التلفزيون كانت الإذاعة تهتم بتحضير برامج لرمضان، وإذا حابين نحكي عن الإذاعة خلونا نحيل الموضوع لأخونا أبو المراديس.
أبو المراديس: نعم. إذاعة دمشق كان فيها عَلَم كبير بارز هوي المرحوم حكمت محسن، المعروف باسم "أبو رشدي"، إذا حبينا نسجل معلومة تاريخية منقول إنه حكمت محسن هو أول كاتب درامي سوري ناضج فنياً ومكتمل، بمعنى إنه كان قادر يكتب نص إذاعي جيد في أي وقت كان، واللي بيتفكر في أمره لا بد ما تعتريه الدهشة لأنه، في الأصل، مو من الكتاب اللي كان معروفين بهداكا الزمان.
أبو محمد: مو من الكتاب؟ لكان أشو بيشتغل؟
أبو المراديس: كان منجد لحف.
أبو ماهر: أنا ما فهمت، شلون منجد وصار كاتب إذاعي؟
أبو المراديس: الحقيقة إنه قصة حياة حكمت محسن بحد ذاتها بتصلح تكون مسلسل طويل.. يا سيدي حكمت قبلما يكون منجد اشتغل أجير بقال، وجرب يشتغل عند خضري، ونجار وحلاق وخياط ومكوجي.. وبالمناسبة هوي انولد سنة 1910 هون، في هاي المدينة اللي نحن هلق لاجئين فيها، إسطنبول. أبوه كان متطوع في الجيش العثماني، ولما اندلعت الحرب العالمية سنة 1914 خاف أبوه عليه فبعته مع والدته ع الشام، والأب انقتل في معارك السفربرلك.
حنان: بصراحة أستاذ؟ أنا صرت حابة أعرف شلون صار منجد وبنفس الوقت كاتب.
أبو المراديس: متلما بدكن. بعدما ناخد استراحة منحكي. أشو في ورانا غير الحكي؟