سمر رمضاني في إسطنبول (13)
علق الأستاذ كمال على الحكاية التي رواها أبو الجود قائلاً: يبدو أننا دخلنا في حكايات عصر ما قبل التلفزيون..
وأضاف إنه يريد أن يتفلسف قليلاً. قال إن الحياة على الكرة الأرضية كان فيها مناطق (قبل وبعد)، يعني عصر قبل اختراع العجلة، ليس كالعصر الذي بعده، وقبل البارود، وبعده، وقبل الكهرباء وبعدها، وقبل اكتشاف الذرة، وبعده.. وما يهمنا الآن هو الحياة ما قبل التلفزيون، فقد كانت -برأيه- أكثر فكاهة وظرفاً وضحكاً مما بعدها.
أبو ماهر: كمان أنا عندي ملاحظة، الناس قبل اختراع الموبايل كانوا يلتقوا ويحكوا ويتسامروا، هلق بتدخل على شي مجلس، بتلاقي عشر أشخاص كل واحد منهم داحش بصره بشاشة موبايله، وكل شوي بتجيه رنة، وبيمد إيده وبيكتب.. وأنا بعتقد إن نحن لما بلشنا نسهر هون في إسطنبول، كان أحسن شغلة عملناها إننا صرنا نترك الموبايلات ع الصامت، وما نفتحها لوقت منطلع من السهرة..
أبو الجود: صح. وفي عندنا بقريتنا مَتَل بيقول إن الموبايل "بيلهي الجحش عن عليقه".
أبو محمد: لما الشباب بيخلصوا فلسفة، وبيبلشوا يحكوا لنا قصص تسلينا إبقوا عطوني خبر.
أبو المراديس: نحن تحت أمرك عم أبو محمد. أنا راح إحكي لكم عن صديق اسمه سامر، ومعروف باسم "أبو سمرة"، تعرفتْ عليه من حوالي 40 سنة، ما بحياتي شفت أظرف منه، مو بس ظريف، هوي، في الحقيقة رجل جميل الطلعة، وكريم، وشجاع، وشهم، لكن، مع الأسف فقير.. والغريب في الأمر أنه ما كان متعقد من الفقر، بالعكس، كان يحوّل سيرة الفقر تبعه لمواقف مضحكة.
أبو إبراهيم: طيب خاي. بلش بسيرته، على خيرة الله.
حنان: سؤال لأبو المراديس. عم تقول إن أبو سمرة لما عرف أن أبوه بده يبيع الجحش ارتعب. ممكن نعرف السبب؟
أبو المراديس: أنا، بصراحة، لما فكرت أفتح سيرة أبو سمرة، حسيت أني راح أوقع في حيرة، وأقول لنفسي: أن هادا سيرته غنية بالحكايات، بقى من وين لازم أبدا؟ لكن الفكرة الأخيرة اللي قلتها، وهي أنه أبو سمرة بيحول الفقر لمواقف مضحكة ذكرتني بحادثة روى لي ياها في أحد لقاءاتنا..
قال لي: أنا يا أبو المراديس ورثت عن أبوي شغلات كتيرة، منها الفقر طبعاً.. وكان أبوي كريم بشكل غريب، يعني إذا أجا لعندنا ضيف بشكل مفاجئ بيتلبك، وبيصير يلوطش متل نحلة دخلت بالخطأ لجوة قطرميز فاضي..
أبو زاهر: أنا عندي ملاحظة عرضية. قبل اختراع التلفون والموبايل كل الضيوف كانوا يجوا بشكل مفاجئ..
أبو المراديس: صح، لكن الضيوف كانوا نوعين، كان واحد صديقك بيدق عليك الباب، ولما بتفتح له ممكن يدعيك على مشوار تطلعوا سوا، وإذا أنت ألحيت عليه ممكن يدخل لعندك ويشرب كاسة شاي.. وإذا بده يجي هو وعيلته يسهروا عندك ممكن يبعتوا لك خبر أن اليوم راح نجي نسهر عندكم بعد العشي.. وهاي الحالات بسيطة، وما بتكلف صاحب البيت الشيء الفلاني، وما بيصير فيها عتب لأن الضيف نفسه بيعرف أنك فقير ومعتر.. لكن تخيل، وأنت قاعد في دارك بأمان الرحمن، تسمع دَق على بابك، وتفتح، تلاقي صديق أو قريب إلك، جاية من حمص، أو من الشام، أو من حلب، مع عيلته، وهادا اللي صار يوميتها مع أبو سمرة وأبوه.. قولي لنا بقى يا ست حنان، إذا العيلة كبيرة أشو كانوا يقولوا عنها في الكلام الدارج؟
حنان: كانوا يقولوا أجت لعندي سلفتي وجايبة معها زَعْزَعْ ومَعْمَعْ، وسنيسل ورباب، وافتحوا لأمكم الباب.
أم زاهر: كمان بيقولوا أجت لعندي فلانة وجايبة معها أقرع دَبا، وأبو عَبا، وهايلة النقاقة، والدقاقة ع الطنبورة.
أبو المراديس: وهادا اللي صار مع أبو سمرة بهداكا اليوم.. أجوا لعنده ناس كتار، وأعمارهم مختلفة، شي كبير شي زغير شي وسط.. وأبوه، كالعادة، تلبك، وصار يرحب بالضيوف من طرف، ويغمز ابنه أبو سمرة منشان يقوم بواجبات الضيافة.. وأبو سمرة بيعرف البير وغطاه، في كل الدار ما كان فيه مجال للضيافة غير أن يقلي كم بيضة ويحط بجنبهم شوية لبن خاتر، وبالأخير يقدم لهم كاسة شاي خفيفة وسكرها قليل.
كمال: أنا مرة تانية حابب أتفلسف. يا سيدي هادا الموقف تراجيدي وكوميدي من الطراز الرفيع. واحد كريم كتير، وتفاجأ بضيوف عددهم كبير، وما عنده شي يقدمه. محنة حقيقية.
أبو المراديس: لكن أبوه لسامر كان قادر يحل أكبر مشكلة من هالنوع، مو بيقولوا إن حاتم الطائي دبح حصانه منشان يطعمي الضيوف؟ هادا أبو عمل شيء شبيه باللي عمله حاتم.. استأذن من الضيوف، بعدما أوضح لهم أن البيت بيتهم، بيتصرفوا فيه متلما بيتصرف المالك بملكه، وسحب إبنه سامر من إيده، وأخده ع الزريبة. وقف هوي وإبنه بجوار الجحش اللي كان بوقتها مستغرق في الهَرْش (تناول الطعام)، وقال له: اسماع يا إبني، يا سامر، من كم يوم أجا لعندي أبو هداد الدرعزيني، وعرض علي أنه يشتري مني هالجحش المحترم بخمسين ليرة، وأنا رفضت، وقلت له (أنا زعلت منك يا أبو هداد.. في حدا براسه عقل بيبيع جحشه؟) فالرجل اعتذر مني وقال لي (أنت حر يا أبو سامر، وهلق ما صار شي، المصاري تبعي في جيبي، وجحشك في زريبتك).. لكن هلق ما عاد في كلام، قررت أبيع..
أبو سمرة ارتعب، وسأل أبوه: أشو عم تحكي ياب؟ بدك تبيع الجحش؟
أبو سامر: الله غالب يا إبني. شوفة عينك، هلق تمن الجحش يا دوب يكفينا إذا بدنا نعمل لضيوفنا غدا نستر فيه وجهنا.
أبو محمد: يا خيو هادا أبو سامر كريم فعلاً.
حنان: سؤال لأبو المراديس. عم تقول إن أبو سمرة لما عرف أن أبوه بده يبيع الجحش ارتعب. ممكن نعرف السبب؟
أبو المراديس: طبعاً ممكن. وهو سبب وجيه جداً. بتذكر تعليق أبو سمرة ع الحادثة، بوقتها قال لي: أبوي كان موزّع الشغل بيني وبين الجحش بالتساوي. تخيل بقى كيف صارت حالتي بعدما بعناه!