سمر رمضاني إدلبي (12)

18 مايو 2020
+ الخط -
بياع المازوت الذي انتسب لحزب البعث
حكينا في لقاء السمر الرمضاني الإدلبي الفائت عن التهمة الموجهة لأهل إدلب بأنهم كتاب تقارير. ناقشنا الأمر بما أمكن من الموضوعية، فقلنا إن كتابة التقارير ازدهرت في سورية خلال حكم البعث، وقد أنشأ حافظ الأسد بين كل فرعي مخابرات فرعاً ثالثاً، والبعث هو الذي اخترع مبدأ كتابة التقارير، وبما أن ضباط المخابرات ينشغلون بالسرقة وتلقي الرشاوي والابتزاز، فإن الوقت الذي يخصصونه لجمع المعلومات عن الناس بقصد إيذائهم وإذلالهم قليل، ويأتي السادة المخبرون ليملأوا هذا النقص، ويقوموا بواجب الإيذاء..

والوضع الطبيعي أن تزدهر كتابة التقارير في إدلب (أكثر من غيرها قليلاً)، لأنها من المحافظات التي يوجد فيها حضور نوعي لحزب البعث، وبحسب ما يروي البعثيون في أدبياتهم فإن أول شهيد بعثي سقط أثناء صراع حزب البعث مع الإقطاع كان في مدينة حارم التابعة لمحافظة إدلب، واسمه محمد ديب قريع.

أبو جهاد: أنا بظن أنه محمد ديب قريع من بلدة كفرتخاريم، لأنك وإنته جاية من سلقين باتجاه إدلب وبتمر بكفرتخاريم بتشوف مدرسة بتحمل اسمه..

أبو المراديس: مع إنه كفرتخاريم لازم تحمل اسم ابراهيم هنانو الشخصية التاريخية المهمة.

السيدة حنان: يا ريت يتركوا المدارس بدون أسماء بالمرة، بس تكون المناهج جيدة وعصرية وما بتخرب عقول الطلاب.

أبو محمد: عم تنسوا إنه أحسن شي في سهراتنا هوي الحكايات. لحد هلق عم تحكوا لنا كلام تبع مثقفين وفهمانين.


أبو المراديس: طيب اسماع هالحكاية الظريفة اللي أنا سمعتها من صديق إدلبي فكه اسمه أبو الناجي نعسان آغا. موضوع الحكاية احتفال أقامه حزب البعث بمدينة حارم في ذكرى السابع من نيسان "إبريل"، وسموا الاحتفال باسم الشهيد البعثي الأول "محمد ديب قريع".. وكان بوقتها جاية وفد بعثي من دمشق، بيتألف من الكاتب المعروف أديب النحوي الله يرحمه، وجلال السيد، وميخائيل اليان، وعبد الفتاح الزلط. أنا في البداية استغربت إنه أبو الناجي حفظ هاي الأسماء بدقة. فسألته: كيف حفظتهم؟ قال لي كان في الاحتفال واحد بعثي غشيم، طلبوا منه يهتف (زَلْط- نَحَوي- يان- سيد) هوي صار يهتف: خَرْط نَحَوي يا مشوّب!

ضحك الحاضرون ضحكاً عالياً.. وقال أبو محمد: أي هه. هلق جينا.

أبو المراديس: خَبَّرْني أبو الناجي نعسان آغا الله يرحمه إنه الناس في إدلب (المدينة) ما كانوا يحبوا يدخلوا في حزب البعث. وترى كلام أبو الناجي صحيح، وإذا إنته بتلاحظ إنه معظم البعثيين البارزين في محافظتنا كانوا من أبناء القرى، وبالأخص حارم وسلقين وكفرتخاريم وريف معرة النعمان ومنطقة معرتمصرين، نبيه حسون وحمدو حجو ومحمد نجيب سيد أحمد والوليد طالب، ووليد بلاني وجيداء غادري.. وغيرهم. ولما حزب البعث استولى على أراضي الأغَوات ووزعها على الفلاحين كان هالشي على الأغلب في الأرياف، لأن حتى أغوات مدينة إدلب كانت ملكياتهم في القرى المجاورة أو حتى القرى البعيدة، ومع ذلك نشأت ضمن مدينة إدلب مجموعة بعثية صغيرة، وحاولتْ هالمجموعة تتوسع، وفرع الحزب صار يكلف الرفاق إنه كل واحد يحاول يقنع شخص أو أكتر بالانتساب لحزب البعث، لأنه هالحزب هوي نصير العمال والفلاحين والطفرانين وصغار الكسبة إلخ.. وكان بياع المازوت "أبو قدور" اللي فتحنا سيرته في السهرة الماضية واحد من ضحايا عملية التنسيب المذكورة.

أبو زاهر: يا ريت لو البعثيين يتركوا الناس بحالهم. هادا الرجل بيهموا يبيع المازوت اللي بعربايته ويرجع على بيته، أيش بده بالأحزاب والحكي الفاضي؟

أبو المراديس: على حسب ما حكى لي أبو الناجي إنه "أبو قدور" اعترف له لاحقاً إنه البعثيين لعبوا بعقله ع طريقة "جدي لعب بعقل تيس"، وخلوه يربط الكديش اللي بيجر عرباية المازوت بعمود الكهربا، وعزموه على مقهى الريحاني، وطلبوا لُه نفس أركيلة تنباك عجمي، مع كاسة شاي إكرك عجم.

وقال أبو قدور لأبو الناجي: أنا من لما شفت هالاحتفال عرفت إنهم عم يطبقوني وبدهم مني شغلة، بس ما كنت بعرف أشو هيي، ولكن بعد شوي بلشت إفهم، لأنهم قعدوا يحكوا لي عن دولة البعث اللي بتثور عَ الأغوات والبيكوات والباشوات، وبتحب العمال والفلاحين، وقالوا لي إنته بتعرف عضو الفرع "فلان الفلاني"؟ قلت لهم: بعرفه. قالوا لي هادا كان بياع قشة وغمم وسخاتير (أحشاء الخروف) وكان يبسّط عند بازار الحنفيات، قدام دكان أحمد شيخ الحدادين اللي بيبيع صوبيات وبواري. طيب وبتعرف أمين الشعبة علان العلاني؟ قلت لهم: لا والله. قالوا لي هادا كان ينقل سماد بلدي ع الجحاش من المزبلة للأراضي.. وإنته يا أبو قدور وضعك أحسن من كل هدول، لأنك بياع مازوت، عم تخدم الشعب وبتخليه ينعم بالدفء ويتجنب الأمراض، والمتل بيقول البرد سبب كل علة. بعدين إذا إنته انتسبت للحزب وما استفدت شي طاول، بالأخير أيش بدك تخسر؟ ولا شي. لأنك معفي من دفع الاشتراكات الحزبية أصلاً.

أبو جهاد: أنا لو كنت مكانه بقبل. بالفعل أشو بده يخسر؟

أبو المراديس: المهم يا سيدي، ما خلوا أبو قدور يطلع من القهوة لحتى عبوا استمارة طلب انتساب باسمه وقالوا له: امضي لنا هون.

قال: أنا ما بعرف بمضي.

قام واحد من رفقاته مزح معه وقال له: طج حافرك هون. قصدي بصمتك.

أبو زاهر: مع احترامي للناس الفقرا والطفرانين.. هدول أهلنا وولاد بلدنا.. بس عن جد أنا خطرت لي فكرة، إنه دولة بتقوم على أكتاف ناس ما عندهم شهادات ولا مؤهلات، شلون بدها تتطور؟ أصلاً هدول الناس لو تركوهم يسترزقوا الله مو كان أحسن إلهم؟

أبو المراديس: أخونا "أبو قدور" صار من هديكة اللحظة بعثي. والرفاق اللي أقنعوه بالانتساب قالوا له: مبروك يا رفيق. هلق صرت بعثي نظامي. قام هوي ضحك وقال لهم: طالما أنا طجيت لكم حافري وصرت بعثي، والبعث متلما قلتوا لي كتير منيح ونافع.. خيو أنا بقيان معي شي مية ليتر مازوت بهالعرباية، شوفوا لي شي رفيق بعثي يشتريهم ويخلصني منهم أحسن ما آخدهم معي بكرة ع الكازيه ويبرك أبو حمدو ديب قزيز يقلي إنته يا أبو قدور كسلان ما بتنفق مازوتك على بكير!

قام واحد كان لابس طقم وكرافة قال لأبو قدور: مو مشكلة. روح هلق فضيهن عنا بالشعبة، ومر بكرة لإصرف لك قيمتهن.

للحديث صلة..

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...