سائق تاكسي في بيروت

28 يوليو 2024
+ الخط -

قال سائق التاكسي إنه أقلَّ سيدة ذات مرة، استلطفته كثيراً وكانت نظراتها إليه مليئة بالشبق كما قال، ثم طلبت رقم هاتفه من دون مقدمات. كانت ساحرة الجمال إلى درجة أنها أربكته أثناء السياقة فكاد يدخل السيارة في عمود كهرباء لولا لطف الله. رفض منحها رقم هاتفه. شرح لنا هذا الرفض بكونه سعيداً مع زوجته أم محمد كما قال، وأن عشرته معها جاوزت الثلاثين سنة من الخبز والملح، وأنه لن يقبل أن تفسد اتصالات مجهولة من سيدة مشبوهة وغريبة الأطوار الثقة والود والحب التي بينه وبين أم محمد.

سادت لحظة صمت طويلة نسبياً داخل التاكسي، إذ لا أحد منا علق بشيء، فقد قطع تبريره هذا حبل التشويق أمام عيوننا وآذاننا وفضولنا. ثم كأنه فطن إلى ذلك بنباهة الراوي العليم فاستدرك: لكني طلبت منها أن تعطيني هي رقمها، كي أتصل بها أنا متى أشاء من دون أن أظهر رقمي لها أثناء الاتصال.

رقع حبل التشويق بهذه التخريجة. كان التاكسي قد قارب مكان نزولنا. تفطن إلى ذلك فختم الحكاية بأنها رفضت. محتجة بأنه أول رجل في حياتها يرفض منحها رقمه، وبأنها هي أيضاً لن تمنحه رقمها إلا إن حصلت على رقمه. أجابها بنخوة رجولية كاملة، وبصوت متهدج عميق لا تنقصه الرومانسية، زاهداً فيها رغم ذلك: فلنتركها للمصادفة، ربما نلتقي ذات يوم مصادفة فيكون ذلك أفضل من ألف ميعاد.

أوشكنا على النزول مع نهاية كلامه، فأخذ يركن السيارة قبالة شاطئ بيروت البهيج الذي لوح لنا بمويجاته ونسيمه مرحباً. علقنا على الحكاية أمامه بدعابة أنه رجل طيب، بل لو أن شخصاً آخر هو الذي كان مكانه لما تذكر أم محمد والملح والعشرة، وما كان ليفلت تلك الفرصة. علقت بدوري: حسناً فعلت يا عم محسن. كان هذا هو اسمه الذي قدم لنا نفسه به وهو يبرم شاربه بخيلاء.

بينما قلت في سري وأنا أنزل: أنت طيب وجميل وفكه لكنك كذاب يا عم محسن، كذاب كبير، لقد ألفت هذه القصة من دماغك، ليس هناك امرأة ساحرة بديعة الجمال والشياكة في العالم بأكمله تطلب من سائق تاكسي عجوز رقمه لتواعده حتى في الأحلام. شعرك أبيض من الكذب يا عم محسن، وأعتقد أنك تتخيل كل يوم أن امرأة ساحرة تطلب رقمك، وربما لو طالت رحلتنا أكثر عبر هذا التاكسي لحكيت لنا كيف تزوجتها فوق الكراسي الخلفية للسيارة. أنت أفاق كبير يا عم محسن، وعوض سياقة التاكسي يناسبك أكثر أن تصير كاتب قصص مسلية للمتقاعدين والأطفال البُدُن الكسالى.

وأكثر من ذلك لست كذاباً وأفاقاً فقط، بل خائن أيضاً. إذ كيف ترفض منحها رقمك بحجة الوفاء لأم محمد، وتطلب أنت رقمها لتتصل بها من دون أن تفطن أم محمد الغامضة هذه التي تخيلتها بنقاب بلدي سميك وقاتم لاتصالاتك الغرامية الحميمة مع الزبونات الساخنات. أنت مستعد لخيانة أم محمد باستمرار يا رجل سوى أنك لا تجد مع من تخونها. أنت كذاب وأفاق وخائن وابن حرام يا عم محسن وهات البقشيش.

هذا هو المونولوج الذي دار في ذهني في ثانية وأنا أنزل من التاكسي. فكرت أني لو تجرأت وعلقت به على حكايته لكان قد هشم أنفي، فقد لاحظت أنه ما زال قوياً كحصان رغم أن سنه جاوزت الستين، كأساتذة اللغة العربية القدامى الذين لا يقبلون أي خطإ لغوي أو نقد أو مزاح.

تمشيت على الرصيف، أشعلت سيجارة، نفثت الدخان ناظراً إلى البحر، وخمنت: إن لم أستطع كتابة ما يدور في ذهني بيني وبين نفسي فما جدوى هذه الكتابة!

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.