سأعود لأدفن هناك
كثيرون لا يعرفون حقيقة هجرة المغاربة إلى أوروبا، إنّها في حقيقة الأمر تظلّ سرّاً لا يفشيه المهاجرون لأسباب غنوصية مجهولة.
قبل أن أسافر كان لي أصدقاء في أوروبا، وكنّا نلتقي في المغرب. لم يكن حديثهم لي عن أوروبا حينها نفسه بعد أن سافرت. حتى نظراتهم تغيّرت وأنا ألتقيهم هنا، أصبح يكسوها ذلك الشجن المبهم الذي للاعتراف. فجأة، يقولون لك كلّ شيء دفعة واحدة قبل أن تعرفه بنفسك. يصبحون متأكدين أنّك أصبحت واحداً منهم، ولم يبق هناك سرّ، بالدارجة المغربية "ما بقا ما يتخبى". وبتعبير آخر، إنّها أسرار لا تُحكى، بل تُرى وتُعاش.
الجيل الأول من المهاجرين المغاربة أو الرعيل الأول، إنّهم سوسيولوجيا مجهولة بالكامل. لقد جاءوا لبناء أوروبا على أكتافهم. كان الهدف من فتح الحدود في وجوههم هو استعمالهم في المناجم والأعمال الشاقة. يعودون إلى المغرب بالسيارات والمال والقرنفل والصابون وقنينة عطر Fa العملاقة، دون أن يستطيع أحد قراءة الأحزان العميقة كالمناجم في نظراتهم. إنّها عطلتهم القصيرة بعيداً عن الثلج والغربة والعنصرية، والشقاء. جيل من الآباء البسطاء، من العمال الطيّعين الأوفياء، حفروا وحملو الأحجار والحديد والخشب بأيديهم وعلى ظهورهم، نعنعوا أباريق الشاي المغربي الأصيل في ورشات البناء العملاقة الأوروبية، وصلّوا العشاء جماعة في مساجد منجمية صغيرة في الليالي الصقيعية لبحر الشمال قبل مواصلة العمل ليلاً كفئران الحقل. سكنوا داخل غيتوهات المغاربة الهامشية، في البنسيونات، والبيوت البروكسيلية (نسبة لمدينة بروكسل) العتيقة المهدّدة بالانهيار، ثمّ جلبوا زوجاتهم المحجبات وأطفالهم ذوي البطون المنتفخة بالكواشيركور (مرض ينشأ بسبب سوء التغذية) إلى عالمٍ جديدٍ من الكريستال والنأي.
"آه يا جنان الصبار في الجبال... آه يا رقرقة الوادي، يا شمس المتوسط الدافئة. وآه يا تفتّح زهرة "بلعمان" (شقائق النعمان) على جنبات حقل الشعير". هكذا يتنهد العجوز المغربي المنجمي "قيدوم" المهاجرين المغاربة، وهو يأخذ أوّل رشفة من كأس شاي منكّه بالنعناع "العبدي" (نسبة إلى قبيلة عبدة المغربية) الأحرش القادم إلى "أوتريخت" أو إلى "لييج" عبر الحافلة.
يعود المهاجرون إلى المغرب بالسيارات والمال والقرنفل والصابون... دون أن يستطيع أحد قراءة الأحزان العميقة كالمناجم في نظراتهم
وقد مرّت السنون سريعة في الخارج بطيئة في الداخل، وقد تغيّر الزمن وكبر الأولاد والأحفاد، الأجيال الجديدة من المهاجرين، الأجيال الجديدة الدائخة التي حدث لها ما حدث للغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة.
يشير بيده الراعشة إلى محطة الجنوب "كار دي ميدي" كما لو أنّها محطة "أولاد زيان"، ويقول بعد تنهيدة عميقة: "هنا نزلت سنة 1964 وكانت تلك هي البداية". وعليك أنت تخيّل صورة للمحطة بالأبيض والأسود ودون كرافيتي، في يده سلة قصبية مليئة بالذكريات، وفي قلبه بلاد بعيدة.
عجوز، لكنه ما يزال قوياً، تجاوز الثمانين وما يزال أنيقاً، صلباً في مصافحة اليد، يعدّ نقود معاشه بالدرهم وليس باليورو. أيضا، يعدّ أولاده وبناته على أصابعه، الذين أصبحوا اليوم بلجيكيين تقريباً، بوظائف وشهادت مهمة أو مروّجي مخدرات. رغم ذلك، يبدو لك وحيداً داخل معطفه الثقيل، كما لو أنّ ذلك المعطف حدود أرضه الصغيرة في المغرب التي ورثها عن أجداده، والتي يرفض أن يبيعها، إنّها للأحفاد يقول، إنّها بلادهم. يكح الكربون ويصمت تاركاً للكاميرا أن تصوّر ما لا يُرى في نظراته الأسيانة الدامعة خلف النظارات الطبية السميكة.
يقول بخصوص العنصرية ساخرا: "على الأقل داخل المنجم لم تكن هناك أيّة عنصرية، فقد كان الجميع سوداً بالفحم والسخام، الجميع داخل المنجم يصبح أفريقياً..".
وكأيّ عجوز مغربي، قبل أن يمضي، يتطلّع إلى ساعته اليدوية العتيقة، مترقباً ميقات صلاة العصر، أذان سيأتي من الهاتف الذكي وليس من الصوامع.
يودعك بتلك النظرة الرجولية الصلبة من الخارج، الهشّة من الداخل، كما لو أنّه يقول: "وداعاً، قد لا نلتقي مرّة أخرى، إنّ الحدود ستفتح قريباً، وسأعود لأدفن هناك".