زراعة الكمون وتطوير الواقع (السَّقافي)
نحن الأدباء الجادين، الذين نكتب في مواضيع تُـبكي الحجر، كنا وما نزال ننظر بعين الغيرة والحسد إلى ابن بلدنا الأديب الساخر المكنى (أبو رباح)، ونتهامس فيما بيننا متسائلين عن الموهبة الخاصة التي تساعده على تحويل أكثر الموضوعات تراجيديةً وإيلاماً إلى مادة تضحك المفجوعات والأرامل المقطوعات، وهذا ما يجعله مقروءاً ومحبوبـاً، بينما نحن ينفـض عنا الناس، وكلما رأونا تغرغر أعينهم بالدمع إشفاقاً علينا، وعلى كتاباتنا المأساوية!
وذات مرة ذهبنا إلى أبو رباح وسألناه (كيف أصبحت كاتباً ساخراً؟)، فنفخ نفخة كافية لكنس غرفة لا تقل مساحتها عن 36 متراً مربعاً، وقال:
- أقسم بالله الجليل على أنني كنت في مطلع حياتي أكثر منكم كآبة وتجهماً، وقد أصبحت كاتباً ساخراً غصباً عني! ففي ذات يوم ذهبت ومعي الكاميرا لأغطي صحافياً ندوة بعنوان (تطوير الواقع الثقافي في محافظتنا)،.. وكلي اعتقاد بأن عدد الحضور لن يتجاوز أصابع اليد، لأن ما أعرفه أن عدد المثقفين في محافظتنا قليل، فهي زراعية، ونسبة الأمية فيها كبيرة، ولكنني فوجئت بأن عددهم يزيد عن أربعمئة شخص، منهم حوالي خمسين لم يجدوا مقاعد خالية فحضروا الملتقى على الواقـف!
وقد سارع مدير الجلسة – مشكوراً - إلى إزالة حيرتي إذ قال مخاطباً هؤلاء الآدميين الذين لم يسبق لي أن رأيت معظمهم:
- لا أريد حساسيات أثناء النقاش ولا مهاترات، فكلنا، والحمد لله، مثقفون!
ثم شرع يخطب عن العولمة والغزو الثقافي (هو يلفظها: السقافي!) وعن الأمن المائي العربي، والانتفاضة الباسلة، وغباء شارون السياسي. ثم احتدم النقاش، فوقف أحدهم وتحدث عن تطوير المناهج في المدارس وضرورة إدخال اللغة الإنكليزية إلى الصف الأول الابتدائي، وقال ثالث إن غلاء الكَمّون سببُه كثرة الأمطار التي هطلت في غير موعـدها، وقال رابع إن من واجب (المسقفين) الالتزام بالقضايا المصيرية، فالقصائد والمسرحيات والروايات والقصص (يجب) أن تتحدث عن فولكلور بلادنا، كصناعة المكانس والزنابيل، ورجاد القمح، وقطاف الزيتون!!
وفي آخر الجلسة، وبينما كنا نغادر القاعة، سألت أحد الحاضرين:
- عفواً يا أخ، بما أنك مثقف، والحمد لله، ما هو الواقع الثقافي برأيك؟
فقال لي: الكذاب ملعون يا أستاذ، لا أعرف بدقة، ولكنني أعتقد أن وجود الواقـــع (السقافي) في حياتنا ضروري، ويعيننا على تحرير فلسطين من رجز الصهاينة الغدارين، شذاذ الآفاق..
والذي حصل يا أصدقائي هو أنني دونت كل هذه المناقشات ونشرتها في الصحيفة كما هي، وفي اليوم التالي لا أرى إلا الناس يشيرون إلي بأناملهم ويضحكون ويقولون، أبو رباح كاتب ساخر.
هل حقاً أنا ساخر؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة (التداوي بالأدب) 2005